الناطور والبيدر في شعر السياب
مازال فينا الجياع والعراة والعبيد، ومازال اليتامى والأرامل والثكالى، ومازلنا نقتل الناطور على البيدر لنستبدله بسارق.
أعلم أنك الإنسان الذي لا يحتاج الألمُ دليلاً ليهتدي إليه، وأعلم أنك الشاعر الذي لم تغب عنه رؤى الجمال، وأعلم أن الألم كان تصاعدياً مع سنيك القصيرات، وكان الإبداع معه تصاعدياً أيضاً، فلا عجب حينما كانت النهاية قريبة منك، فمن يمشي سريعاً يصل أسرع، أعلم أن الثماني وثلاثين سنة كانت كافية لتصل بها إلى أعلى مرحلة من مراحل السقم والغربة والحرمان، وأعلم أن الموت لم يكن إلا راحة عظيمة مما كنت تكابد وتجد، وكفيلة أيضاً أن تصل بها إلى عرش العبقرية الشعرية.
أعلم أيضاً أنك كنت إنساناً بشاعر وشاعر بإنسان، ولم تكن لتكون بأحدهما من دون الآخر، ولم نستطيع فهمك شاعراً ما لم نغص في أعماقك إنساناً، ويكفيك فخراً أن أقرانك من الشعراء –ممن عاصروك وعاشوا بعدك بنصف قرن وأكثر- لم يتركوا عُشْر الأثر الذي تركه فكرك وشاعريتك حين متّ وأنت ابن للفتوة والشباب، فذلك هو سر العبقرية حين يحملها الإنسان، وسر الإنسانية حين يحملها العبقري، لكني أصدقك القول بأنني لم أكن أدرك يوماً أنني سأحسدك على ما آل إليه حالك، ولم يدر في خلدي أن تتحول في مخيلتي إلى إنسان محظوظ بعد كل ما رأيت من عذابات الحياة.
لا أكتمك.. لقد كنت أبكي كلما قرأت مرثية الشاعر العراقي (سعدي يوسف) لك وهو يردد ويقول:
جيكور توقد في المساء الرطب
فانوساً ولا تلقى ضياءه
مات اليتيم وخلّف امرأة وأيتاماً وراءه
يا رحمة الله التي وسعت شقاءه
يا أم من لا أم تغمض جفنه كوني رداءه
ولتمنحي الجسد المعذّب راحة، والحلق قطرة
ولتمسحي بالسدر جبهته، وبالأعشاب صدره
هو طفلك المصلوب فوق سريره عاماً فعاما
متقيحُ الطعنات مشلولاً مضاماً
لكني أدرك اليوم أن حياتك كانت فخراً وموتك كان فخراً أيضاً، فمازال الشعر ببعدك في وله وحزن واندهاش يعيش حالة الفقد ويتقبل فيك العزاء، فقد كنت فرقاناً بين الحزن، والحزن النبيل ونقطة اتصال عظيمة للشعر بالإنسانية، ولقد أثبت أن الحياة بلا أم ظلّ ناقص وأنها بلا وطن شمس قصيرة، أعلم أنك فتحت مغاليق الخيالات لأجل الحزن الذي كان يعتريك وأبواب المجاز لأجل الإحاطة بالألم الذي كنت تتغلب عليه، فانفتحت بذلك كل أبواب الجمال أمامك، ثم أمام الشعراء من بعدك فكنت فيهم المبتكر، وعشت ولما تزل فيهم الحادي والرائد، ولكن الحال بعدك كما هو– يابدر- فمازالت جيكور توقد فوانيس بلا ضياء و(بُويبْ) متسربلاً ببقايا وشل للدموع، ومازالت أشباح منزل (الأقنان) تعيش اليتمْ بعدك، ولما تزل شجرة السدر بحاجة لمن يهذب ضفائرها اليابسة، مازال فينا الضياع والخداع والظلام والسقام، ومازال أحدنا يردد في صحة:
يا نوم بين جوانحي أمل لم (تدرْ) قبلك أنه أملُ
مازلنا واقفين خلف سور من حجار، لا باب فيه لكي تدق ولا نوافد في الجدار، ومازلنا نتحرك انتظاراً واصطباراً، وما نجهل ما لا نريد وما نريد، مازال فينا الجياع والعراة والعبيد، ومازال اليتامى والأرامل والثكالى ومازلنا نقتل الناطور على البيدر لنستبدله بسارق ونخلق من بناته ألف مومس عمياء ثم نتركها بلا فانوس ونبيع الزيت لمن يدفع أكثر، مازالت المزاريب تنشج بعدك –يابدر- ومازال البكاء هو العزاء الأقرب للنساء من كل صديق وأنيس.
لم تبق وراءك غابة ولا سحر، ولا شرفتان، ولا قمر، وقد تيبست أخشاب (الشناشيل) وأمست محض ركام واقف، وباتت (ابنة الشلبي) متسولة على رصيف المارّة، وبات (شباك وفيقة) مشرعاً تتداول دفتيه الريح، لقد غادرنا بعدك –يابدر- الحمد والعطاء، ولم يبق بعد ما تقدم إلا أن أزف لك خبراً سيسعدك كثيراً، فحين قلت:
إن متُّ يا وطني فقبرٌ
في مقابرك الكئيبة أقصى مناي
صرت به الأوفر حظاً بين الآلاف من المشردين، فقد فزت من العراق بقبر مجاني بين من تحب وغيرك الآن يدفع آلاف الدولارات ليشتري قبراً نائياً في الغربة.
رحم الله بدر شاكر السياب..
د.رحيم هادي الشمخي