كتاب “حياة البلاد في علم الاقتصاد” للشهيد رفيق رزق سلوم
إبراهيم علوش
وقعت بيدي صدفةً يوماً ما، خلال تجوالي في شوارع دمشق قبل الحرب على سورية بسنوات، نسخة أصلية من كتاب “حياة البلاد في علم الاقتصاد”، المنشور عام 1912 في حمص عن مطبعة قسطنطين يني، كانت معروضة للبيع بمئة ليرة سورية على قارعة رصيف أحد الشوارع المودية لساحة المحافظة إلى جانب كتب الأبراج والطبخ والروايات البوليسية المستعملة والمعاد بيعها مراراً، وهو ما كان يعادل وقتها دولارين أمريكيين اثنين، وقد ذهلت لما حضنت أوراق ذلك الكتاب الماثلة للون البني الفاتح بيدي، لأنه، أولاً، بحسب علمي، أول كتاب علم اقتصاد حديث باللغة العربية، وثانياً لأن مؤلفه هو أحد رواد النهضة العربية القومية في بداية القرن العشرين وهو الشهيد رفيق رزق سلوم الذي أعدمه الأتراك في ساحة المرجة في دمشق يوم 6 أيار عام 1916، وثالثاً لأن النسخة أصلية عليها ختم المؤلف نفسه. وقد دُرِّس هذا الكتاب فترةً طويلة في بعض مدارس حمص، وفي مدرسة السلمية الزراعية وغيرها، فلا شك أن ثمة نسخاً كثيرة منه في مكانٍ أو أمكنة ما، لكنه غير متوفر في المكتبات، ولم أكن قد رأيته قط من قبلُ، وقد شعرت وقتها كقومي عروبي ودارس ومدرّس لعلم الاقتصاد ورث عن أبيه الشغف بالكتب أن “حياة البلاد في علم الاقتصاد” هو الذي وجدني، ولم أكن أنا الذي وجدته.
وبعد أن غُصتُ في لجج الكتاب ذي المئة والعشرين وست صفحات ذهلت مجدداً من مدى تمكن رفيق رزق سلوم من علم الاقتصاد الغربي، مقارنة بأي كتاب تدريسي عن ذلك العلم في المكتبة العربية اليوم بمستوى السنة الجامعية الرابعة، وهو كتاب مكثفٌ جداً في مضمونه مكتوبٌ بالرغم من ذلك بطريقة مبسطة جداً لأن كاتبه ليس همه استعراض قدراته الشخصية فهو صاحبُ رسالة معنيٌ بتعليم الناس علم الاقتصاد كجزء من مشروعٍ عربي نهضوي، هو بالضرورة مشروعٌ قومي، ولا يمكن أن يكون المشروع النهضوي إلا قومياً، ولا يمكن أن يتم النهوض والاستقلال والتحرر من دون بناء اقتصادي، ولا يمكن أن يتم ذلك من دون فكر ومشروع سياسي، وهو ما أدركه رفيق رزق سلوم جيداً، فلم يغرقْ بالتقنيات، مع أنه ذللها باقتدار لفهم المبتدئ النبيه، فلا يكاد يدرك إلا المتخصصون مدى امتلاكه لصنعة السهل الممتنع، وفي نهاية كل فصل من فصول الكتاب وضع سلوم أسئلة سهلة مباشرة تعرّف القارئ بمدى استيعابه لمادة الدرس، ومرر أحياناً أسئلة مفتوحة بعدها تربط المادة بالمشروع القومي النهضوي مثل: “لماذا اندثرت مدنية أجدادنا العرب العظام، وماذا يجب أن نعمل حتى نعيد تلك المدنية المجيدة؟” (نهاية الدرس الرابع، ص 17)، ومثل: “إلى أية صنائع تحتاج الأمة العربية اليوم، وكيف يجب أن تسعى لذلك؟” (نهاية الدرس الثامن، ص 26)، ومثل: “كيف يقدر أن يخدم العالِم الاقتصادي أمته؟” (نهاية الدرس العاشر، ص 32). وعندما تناول مسألة “حرية المباراة والمنافسة”، فإنه تناولها من منظور قومي موضحاً أن مفهوم المنافسة انقلب، و”نرى في هذا العصر أن هذه الحرب قد تغيرت وانقلبت إلى حرب أخرى اقتصادية” (ص 28)، و”ترى الحكومات يزاحم بعضها بعضاً في التجارة والصناعة ولا يهمها امتلاك الأرض نفسها بل يهمها في الدرجة الأولى امتلاك مصالحها الاقتصادية والشواهد أمامنا اليوم كثيرة محسوسة ولهذا السبب تعتني مدارس أوروبا بالعلوم الاقتصادية فهي بمنزلة العلوم الحربية…” (ص 29).
وقد وضع رفيق رزق سلوم لكتابه عنواناً فرعياً لكتاب “حياة البلاد في علم الاقتصاد” هو (ملخص باختصار عن أحدث المؤلفات في هذا العلم)، لكنه لم يقدم ملخصاً أو يترجم فحسب، بل قدم عصارة لعلم الاقتصاد الغربي تم هضمها جيداً للقارئ العربي، كمفكر، وكمعلم، وكصاحب رسالة، يصح القول أنها نقطة انطلاق علم الاقتصاد الحديث باللغة العربية، وكأن ذلك لم يكفه شرفاً، فإن المذهل حقاً أن رفيق رزق سلوم قام به وهو في الحادية العشرين من عمره، إذ أنه ولد في شهر آذار 1891، واستشهد في 6 أيار 1916 (عن خمسةٍ وعشرين عاماً)، أما كتابه “حياة البلاد في علم الاقتصاد” فقد صدر في وقتٍ ما عام 1912، وكان قد صدرت أجزاء منه على ما يبدو على شكل مقالات في جريدة “الحضارة” التي كان يصدرها وقتها الشيخ عبد الحميد الزهراوي الذي أهداه رفيق رزق سلوم الكتاب، والذي أعدمه الأتراك أيضاً في ساحة المرجة في دمشق في 6 أيار عام 1916، إلى جانب عدد من القادة والمفكرين والكتاب والرموز مثل الأمير عمر الجزائري، حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، وقد ترافق ذلك مع إعدامات مماثلة في ساحة البرج في بيروت في 6 أيار أيضاً، غير الذين أعدموا في تواريخ أخرى.
كان رفيق رزق سلوم واحداً من بين عدد من الشعراء والكتاب والمفكرين العرب الذين أعدمهم الأتراك، وقد حرص والدي ناجي علوش على متابعة تراث هؤلاء الأدبي والفكري ناشراً كتاباً عن الشهيد عبد الحميد الزهراوي، وآخر عن الشهيد عبد الغني العريسي، كما عكف على إعداد كتاب عن الشهيد شكري العسلي، ويمكن إيجاد النسخ الالكترونية من كتابيه عن عبد الحميد الزهراوي وعبد الغني العريسي على هذين الرابطين:
http://www.freearabvoice.org/…/مدخل-إلى-قراءة-عبد-الحميد-ال…
http://www.freearabvoice.org/…/uploads/2018/01/مختارات-المف…
كان رفيق رزق سلوم قد نشر رواية بعنوان “أمراض العصر الجديد” عام 1909 في السابعة عشرة من عمره وهو في الجامعة الأمريكية في بيروت، وفي صيف عام 1909 عاد إلى حمص وهناك التقى بالشيخ عبد الحميد الزهراوي ونشأت عشرة عمر بينهما، وقد ترك الجامعة الأمريكية في بيروت وذهب إلى الآستانة لدراسة الحقوق بناءً على تفاهم (سياسي-تنظيمي على ما يبدو) مع الشيخ الزهراوي، وهناك عكف على دراسة الحقوق وعلى كتابة المقالات للصحف العربية مثل (المقتطف ـ المهذب ـ المفيد ـ حمص ـ لسان العرب)، وكان محرر جريدة “الحضارة” التي يصدرها الشيخ الزهراوي، وقد بقي سلوم في الآستانة حتى عام 1914، كما وضع مجلداً بعنوان “حقوق الدول” من 800 صفحة هو نتاج دراسته للحقوق في الآستانة، وقد كان بارعاً في اللغات وفي العزف على الآلات الموسيقية، وله مجموعة شعرية رشحت بعض قصائدها، وقد انضم للجمعية القحطانية ذات التوجه القومي العروبي وهي إحدى الجمعيات العربية السرية التي تأسست في الآستانة في 1909، التي كان الشيخ الزهراوي عضواً فيها أيضاً بالطبع، ولعل العلاقة بين الشيخ الزهراوي ورفيق رزق سلوم الذي ولد لعائلة مسيحية أرثوذكسية، ودرس الدين المسيحي ورسم راهباً قبل أن يخلع ثوب الرهبنة ويدخل غمار الحياة العامة، ودفن بعد إعدامه في مقبرة القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس في دمشق، نموذجٌ لما كانت عليه الحركة العربية القومية منذ بدأت، فلا حدٌ يباعدنا، ولا دينٌ يفرقنا، لسان الضاد يجمعنا، بغسانٍ وعدنانِ.
ماذا كانت ستنتج عبقرية رفيق رزق سلوم الفذة يا ترى لو قيض لها أن تستمر عشرين أو ثلاثين سنة أو أربعين أخرى؟ هذا ما لن نعرفه أبداً لأن المحتلين الأتراك قضوا عليها في المهد، كما قضوا على الكثير من مفكرينا وكتابنا، وربما على الحياة الثقافية والفكرية العربية ذاتها، لأن تاريخ حكمهم للوطن العربي، منذ السلاجقة، هو تاريخ انفصالنا عن الحضارة الإنسانية وتقدمها، وقد تعرض هذا المفكر العلمي ذو الميول اللغوية والفنية والشعرية لتعذيب وحشي على يد المحتلين الأتراك غداة اعتقاله في سجن عالية (في لبنان) في 9 تشرين أول 1915 تقريباً حيث قضى الأشهر الثمانية الباقية من حياته حتى إعدامه في 6 أيار 1916، كما جاء في رسالة لأهله من السجن في 5 نيسان 1916. وقد كتب قصيدة “صبوا الدماء على قبري بلا أسفٍ”، وهي آخر قصيدة نظمها قبل إعدامه، كدعوة للثورة على الاحتلال التركي (وتجدونها في نهاية العدد 50 من مجلة “طلقة تنوير”) ومطلعها:
لا العُرب أهلي ولا سورية داري………إن لم تهبوا لنيل الحقِ والثارِ
إن نمتمُ عن دمي لا كنتمُ أبداً……… وكان خصمكمُ في المحشر الباري
لكن هذا الرجل الرجل، الممتلئ إحساساً وضميراً وفكراً، الذي سار إلى حبل المشنقة كما نقل الرواة والشهود كأنه ذاهبٌ إلى عرس، كان يتعامل مع علم الاقتصاد بعقلٍ باردٍ وعلمي صارم كحد السكين، وكان كأنه جاء بنبوءةٍ كارثية يصف بها ما آل إليه على يد المحتلين الأتراك في الفصل المعنون “رأس المال”، حيث راح يشرح في ختامه الفرق بين أقسام رأس المال، موضحاً ضرورة اعتبار المعلومات (العلم والاختراعات والمعرفة التكنولوجية) جزءاً من رأس المال المعنوي، مقابل رأس المادي مثل الآلات والمعدات والأبنية، قائلاً أن رأس المال المادي “يمكن أن نعمل له جدولاً ونعرف قيمته في كل أمة، أما رأس المال المعنوي فلا يمكننا تقديره تماماً… ويوجد فرق آخر بين المادي والمعنوي أن الأول قائم بذاته ويثمر بنفسه وأما الثاني فوجوده منوط بحياة صاحبه وصحته، ولذلك تخسر الأمة بموت العالِم أكثر من موت الغني، لأن ثروة الغني لم تمت بموته، فتخسر الأمة سعيه فقط، وأما بموت العالِم فتخسر الأمة سعي الرجل مع رأس المال الذي كان قائماً بشخصه” (ص 36).
… لكن يا أستاذ رفيق، عندما يترك لنا المفكر والعالِم والمعلم كتباً رائدة مثل “حياة البلاد في علم الاقتصاد”، فإن ما فيها يبقى جزءاً من رأس مال الأمة المعنوي أيضاً، ومن تراثها الفكري، الذي لا بد لها أن تعيد اكتشافه عندما تصمم على المضي في طريق نهضتها، ومن المنطقي أن تقدير القيمة المالية لرأس المال المعنوي أصعب بكثير من تقدير القيمة المالية لرأس المال المادي، أساساً لأن تحويل رأس المال المعنوي إلى إنتاج أو ثروة مادية ومعنوية، يظل إمكانية كامنة لم تحقق تماماً بعد، أما ما نخسره من قتل المفكر والعالِم، لا سيما إذا كان صغير السن كبير الوعد مثلك، فهو كل الإنتاج الفكري الذي لم يتحقق بعد، وكل رأس المال المعنوي الذي كان سينتجه للأمة، فكانت خسارتنا أكبر من أن تعوض، وكانت ملخصاً لقصتنا مع الاحتلال التركي في هذه الأمة.
نبذة عن كتاب “حياة البلاد في علم الاقتصاد”:
بالبرود العلمي والموضوعية ذاتها التي وضع فيها رفيق رزق سلوم “حياة البلاد في علم الاقتصاد” لا بد من نبذة عن الكتاب وما فيه، مع الإشارة إلى أن من يقرأه اليوم ربما لا يجد سلاسة في فهم بعض التعابير التي اجترحها سلوم في العربية لترجمة مصطلحات علم الاقتصاد الحديث في وقتٍ لم تكن توجد فيه مثل تلك المصطلحات باللغة العربية، وهو إنجازٌ تعريبيٌ يضاف لإنجازاته، وهو يجري في التعريب مجرى علماء الاقتصاد الكلاسيكيين، فيسمي الإنتاج “استحصال الثروة”، ويسمي المنظم entrepreneur الذي يجمع الموارد الاقتصادية من عمل ورأس مال ومواد أولية في منشأة اقتصادية “المتعهد”، ويسمي العمال “العَمَلَة”، ويسمي الإضراب العمالي “الاعتصاب”، ويسمي الفائدة كعائد لرأس المال، بما يختلف عن عائد منظم المنشأة الاقتصادية، “ربا”، ويسمى ربح المنظم “تمتع”، ويسمي الآلات “ماكنات”، ويسمي الريع، وهو عائد الأرض وموادها، “رانت” وهو rent طبعاً، إلخ…
على الرغم من ذلك يتناول رفيق رزق سلوم تقديمه الرائد لعلم الاقتصاد الغربي كمفكر وعالم ومعلم، وهو يبدأ بتعريف علم الاقتصاد باعتباره علم استحصال الثروة (الإنتاج الاقتصادي) وانقسامها (توزيع الناتج الوطني على الطبقات الاجتماعية المختلفة) وتداولها (التبادل وتقسيم العمل والنقود) واستهلاكها، اقرأ: الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك.
يقسم الكتاب إلى أربعة أجزاء بناءً على هذا التعريف لعلم الاقتصاد، حيث يحتل الجزء الأول من التعريف (الإنتاج أو استحصال الثروة) حيزاً أكبر من أي قسم آخر منفرداً، وهو يدخل فيه بتفاصيل تظهر تمكنه الوطيد من المادة العلمية، من الفرق بين قيمة الأشياء في السوق وفائدتها (الهواء المفيد الذي لا نستطيع العيش بدونه ونستهلكه مجاناً مقابل الألماس الغالي)، وعندما يتناول الأرض كعنصر إنتاجي فإنه يتناول التربة الزراعية والمعادن في جوف الأرض وعلى سطحها والمناخ والموقع والقوى الطبيعية المولدة للطاقة مثل الماء والهواء والشمس، وعندما يتناول العمل كعنصر إنتاجي فإنه يفرق بين العمل كطاقة إنسانية والعمل كمفهوم اقتصادي، واضعاً العمل البدني والذهني الموجه اقتصادياً في إطار واحد هو العمل الاقتصادي. تعريف رأس المال في الكتاب أنه عنصر إنتاجي تشكل من خلال تراكم الأشياء المدخرة بقصد استعمالها ثانيةً لإنتاج الثروة (ص 33)، وفي تفسيره لكيفية نشوء رأس المال بعد عملي، فهو ينشأ عن اختراع أو فكرة جديدة يتم استثمار مدخرات في تحقيقها أو تنفيذها، مثلاً عندما يقرر صياد في مجتمع صيادين على البحر أن يمتنع عن الصيد فترة زمنية ما لكي يبني قارباً يتيح له أن يصطاد في مياهٍ أعمق بعيداً عن الشاطئ، مما يتطلب وجود فكرة القارب أولاً، ومدخرات من الأسماك تسمح للصياد وعائلته أن يعيشوا ريثما يبني قاربه، يتشكل رأس مال إنتاجي جديد هو قارب الصيد، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن رفيق رزق سلوم برع بضرب الأمثلة المبسطة التي توضح الأفكار والنظريات المعقدة بطريقة سهلة وسلسلة.
الفائدة (الربا) هنا هي العائد الإنتاجي الإضافي الناتج عن استخدام رأس المال الجديد، ويصر سلوم هنا على التمييز بين الربا في القرون الوسطى وعائد رأس المال المنتج في العصر الحديث: فلنأخذ مثلاً “امرأة تشتغل بالخياطة كل يوم بعشرة قروش فأتاها رجلٌ غنيٌ وأعطاها ألف قرش ثمن ماكنة خياطة فأصبحت هذه المرأة تحصّل من يومها عشرين قرشاً فصارت تربح إذن في اليوم عشرة قروش زيادة على ربحها السابق، فهذه العشرة قروش هي حصة رأس المال، لأنها لم تحصل إلا بمعاونة صاحب المال فاقتسام النفع بينهما معقول وليس هذا كما كان يجري في القرون الوسطى من الشناعات التي لأجلها حرم الفلاسفة والشرائع الربا” (ص 61-62).
أما معدل الفائدة، أو العائد على رأس المال، فيتحدد من خلال العرض والطلب مثل كل شيء آخر، فعندما تزداد المخاطرة، يقل عرض رأس المال للاستثمار، وبالتالي يرتفع عائده للتعويض عن ذلك، وعندما يزداد الطلب على رأس المال للاستثمار يزداد عائده، والعكس صحيح، ففي الدول الأكثر تقدماً، التي أنجزت مشروعها التنموي، تقل فرص الاستثمار المتاحة، مما يزيد عرضه، ويقلل عائده، وعندما يحدث تطور تكنولوجي تنشأ فرص استثمارية جديدة (مثلاً اختراع القطار، مما يتطلب إنشاء مصانع قاطرات ولوازمها وسكك حديد إلخ…) يزيد الطلب على رأس المال، مما يرفع عائده.
ولا بد من الإشارة إلى أن رفيق رزق سلوم يتبنى وجهة نظر رأسمالية صرف، مناهضاً تدخل الدولة في الاقتصاد، ومناظراً الاشتراكيين، وهو أمر يحتاج لمناقشة ونقد، ولكنه قد يكون مفهوماً إذا أخذنا بعين الاعتبار إشاراته المتكررة لتدخل الدولة العثمانية المدمر في إعاقة التطور الرأسمالي بسبب بيروقراطيتها وفسادها وتخلفها المفرط، فلننظر مثلاً للدرس الخاص بالشركات المساهمة (الأنونيم) التي اعتبرها ضرورية لتأسيس الأعمال الكبيرة مثل سكك الحديد والبواخر والغاز والماء وغيرها، يقول سلوم في هذا الصدد: “تأليف مثل هذه الشركة يتوقف في بعض الممالك على إذن من الحكومة، وفي بعضها لا يحتاج إلى ذلك، أما في دولتنا العثمانية فلا تتألف إلا بإرادة سنية (يعني من أعلى المستويات الحكومية – إ. ع) فيكتب المؤسسون استدعاء يذكر فيه موضوع الشركة ومدة دوامها ومقدار رأسمالها وصورة توزيعه وقانونها الأساسي وكل هذا يقدم مع الاستدعاء إلى نظارة التجارة والنافعة وبعد أن تبحث فيه تحوله إلى الصدارة (الصدر الأعظم، يعني رئاسة الوزراء – إ. ع) ومن هناك يحول إلى شورى الدولة لتتذاكر فيه ثم ترسل الأوراق ثانيةً إلى الصدارة وهناك يتذاكر به مجلس النظار وبعده يعرض على الملك للتصديق عليه فبعد التصديق يحق لهم تأليف الشركة” (ص 40 -41).
ويجادل سلوم كثيراً ضد الضرائب معتبراً أنها تضعف حوافز العمل والاستثمار، ويركز على مجموعة الضرائب العثمانية المسماة (الويركو) وفي البداية يقول، ربما بسبب الرقابة، أنها حق للحكومة على الشعب لتأمين الأمن والإنفاق على القضاء، ومن ثم يطفق في تعدادها قائلاً: “ومنها رسم الطرق وهو أن على كل فرد أن يشتغل أياماً في السنة في الطرق ومن لا يشتغل بنفسه يدفع البدل ومنها الأعشار فيؤخذ من الحاصلات غير الصافية (أي قبل خصم تكاليف الإنتاج – إ. ع) عشرة في المئة، ويضاف قرش ونصف أيضاً للمعارف، ومنها رسوم الأغنام فتعد في كل سنة ويؤخذ عن كل رأس مقدار معلوم، ورسوم الأملاك والويركو الشخصي، وهو ما يدفعه كل فرد بالنسبة إلى صنعته وموقعه” (ص. 123).
ونلمس عموماً أن رفيق رزق سلوم يقدم رؤىً أيديولوجية تعزز فكرة التراكم الرأسمالي من دون عوائق، وأن موضوعة العدالة الاجتماعية تأخذ مكانةً أدنى في تفكيره، من دون أن يهملها، وهو الأمر الذي ربما يبرره الحرص على تحقيق التنمية الاقتصادية في الوطن العربي بأسرع وقت ممكن، ومن هنا دفاعه عن “الماكنات” أو الآلات ودورها في زيادة الثروة ورفع الإنتاجية (ص. 47-50)، ومع ذلك فإنه يتبنى ما ذهبت إليه الدول الأوروبية من تحديد لساعات العمل والبناء الصحي للمصانع وتوفير أرباب العمل الطعام والمساكن والمدارس بأسعار زهيدة للعمال، مضيفاً “وفي أوروبا الآن قد وقف جيش العملة (العمال) والاشتراكيين في طريق المتمولين ووضعوا حداً لاستبدادهم” (ص. 50). كما أنه يدافع عن حق العمال بالإضراب (الاعتصاب) معتبراً الإكثار منه مدمراً للاقتصاد، فلا بد من اللجوء للتحكيم (ص. 70)، وهو مع حق تشكيل النقابات العمالية بشرط عدم تدخلها بالسياسة واقتصارها على الأهداف المطلبية، كما يدافع عن تشكيل التعاونيات الإنتاجية والإقراضية، ويعتبر التعاونيات الإنتاجية التي يكون فيها العمال شركاء مشروعاً فاشلاً (ص. 75).
يبدو الإطار الأيديولوجي الذي ينطلق منه سلوم في “حياة البلاد في علم الاقتصاد” أقرب للديموقراطي البرجوازي بالتعريف اليساري، وهو ليس بالأمر المستغرب عندما يكون المطروح والمطلوب تاريخياً هو ثورة ديموقراطية تحقق الاستقلال عن الأتراك والنهضة في إطار قومي عربي، وإذا كان ما كتبه ملخصاً للاقتصاد الغربي في الواحد والعشرين من عمره، فلعله كان سيطور طروحاته مع المزيد من التعمق، لا سيما أنه لم يكن يخلو من النزعة النقدية كما نلاحظ في تناوله لطروحات روبرت مالتوس حول الفرق بين نمو السكان بمتوالية هندسية ونمو الموارد بمتوالية حسابية مما يسبب الفقر والمجاعات والمرض إلخ… مما يجعل جزءاً من السكان دوماً “كتلة فائضة عن اللزوم” لا بأس من زوالها بطريقة أو بأخرى، فرفيق رزق سلوم يرد عليه بقوة، معتبراً أن ما ينطبق على الحيوانات الذين يتكاثرون بما تتيحه الموارد المتوفرة بلا تفكير لا ينطبق على الإنسان الذي يستخدم عقله، فهو لا يقدم على مشروع الزواج في أغلب الأحوال قبل أن يؤمن وضعه مادياً نوعاً ما، كما أن للمدنية متطلباتها، ومنها زيادة سنوات التعليم في المدرسة والجامعة، وازدياد تكاليف الحياة، مما يؤخر وقت الزواج ويقلل الإنجاب، كما أن زيادة الإنتاج في الصناعة والتجارة وغيرها من قطاعات الاقتصاد تثبت أن العلم والتكنولوجيا أكثر من قادرين على حل مشكلة الندرة، وأن المشكلة تنشأ في الدول المتخلفة التي تتأخر فيها المؤسسات الإنتاجية ويتأخر التقدم العلمي والتقني (ص. 76 – 81).
ولكن حتى هنا نلاحظ أن الحس القومي لا يغيب عن رفيق رزق سلوم: “من الوجهة السياسية لا يمكن استحسان النقص في العدد لأنه يدعو إلى انقراض تلك الأمة وضعفها أمام مجاوريها فتخلو البلاد من أهلها فيأتيها الغرباء ومهما تقدمت المعدات الحربية فإن الكثرة لها تأثيرٌ عظيمٌ في الظفر والغلبة” (ص. 78)، ثم يشرع سلوم بعد ذلك في تحديد الشروط التي تجعل من الهجرة خارج الوطن عامل قوة أو عامل ضعف، وينطلق بعد ذلك للدخول في الكثير من الشؤون الاقتصادية مثل التبادل والنقود والبنوك، ومثل التجارة الخارجية وضرورة خوض غمارها من منطلق تقوية العلوم والمعارف لا من منطلق حماية الفشل المحلي بالجمارك، ومثل الاستهلاك وأنواعه وأشكاله وأبعاده، ولعل أضعف جزء من الكتاب هو ذلك الذي يعالج مشكلة الأزمات الاقتصادية التي يشير إليها في أقل من صفحة واحدة، فيعزوها إما للحروب أو للتوسع غير المدروس في الاستثمار أكثر مما تحتمل السوق وهو الأمر الذي يتطلب تصحيحاً، ومع ذلك، فإن ما قدمه رفيق رزق سلوم لا يحاكم بمقاييس اليوم، ولا بمقاييس الغرب، بل بمقاييس الوطن العربي في العام 1912، وبصفته تلك، فإنه سلك درباً غير مطروق، وفتح طريقاً ريادياً كان سيتحول إلى مدرسة عربية في علم الاقتصاد لو تم البناء عليه، لكن تعثر المشروع النهضوي العربي، الذي كان سلوم أحد شهدائه، جعلنا نعيد اكتشافه من جديد، لأن الحاجة إلى مثل ذلك المشروع لا تزال قائمة حتى يومنا هذا بدرجة لا تقل عما كانت عليه في العام 1912.