مكانة المرأة السورية في مملكة ماري
احتلت ماري مكانة الصدارة بين ممالك الشرق منذ حوالي 2900 عام قبل الميلاد، وكان للمرأة مكانة بارزة فيها، فملكتها الحلبية أمسكت زمام أمور بلادها في كثير من الأحيان، فقد احتلت المرأة السورية في المشرق القديم مكانة مهمة ومرموقة، ولوحظ في نصوص ماري الملكية أن المرأة جزء أساسي وفعال من ذلك الحراك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ومنبع لعادات وتقاليد ماتزال مستمرة إلى وقتنا الحالي، كما أطلعتنا النصوص على معلومات كثيرة يمكن من خلالها استنباط مكانة المرأة والعلاقة التي كانت تربطها مع الأسرة والمجتمع وما احتلته من مكانة في ذلك العصر، ولقد كان في مملكة ماري كل شيء منظماً وثميناً وغنياً، وقد بلغ الرفاه أقصاه في تلك الحقبة من عهد (زمري ليم) الذي سيطر على أكثر ممالك (الفرات) ودانت له بالصداقة ممالك (أوغاريت وإيبلا ويمحاض) ولقد قدمت حلب لـ(زمري ليم) أثمن هدية يمكن أن يحلم بها إنسان وهي (شيبتو) ابنة الملك (ياريم ليم) فكانت آخر زوجاته ومليكة قلبه وعرشه، وأماً لبعض بناته الثلاثة عشر اللواتي توزعن في الممالك القريبة والبعيدة كزوجات وسفيرات للمملكة، فيؤمنّ التبادل الاقتصادي والحضاري ويرسخ الاتجاه الديني والسياسي، ويبقين على صلة قوية بالمملكة الأم.
وقد تزوجت (شيبتو) من (زمري ليم) المنحدر من سلالة (يعدون ليم) عام 1770 قبل الميلاد، بعد ثلاث سنوات من حكمه، وكانت الزوجة الثالثة التي استطاعت بلطفها وكياستها أن تحوّل هذا الزواج السياسي على عاطفة جياشة، وإلى تفاهم مطلق، حيث سلّمها الملك زمام الأمور في غيابه أو أثناء حضوره، كما قامت بمهام دائمة في داخل القصر وخارجه، فتلك المرأة الجميلة خلّدها الشارع، وقادت (ماري) في غياب زوجها أثناء غزواته، كما أدارت القصر الملكي وشؤون العاملات والكاهنات بشكل مذهل، بل كان الملك يسلّمها زمام الأمور كلما غاب عن المملكة في حرب أو تفقد شعبه، كما أن الرُقُم الأثرية المكتشفة في (ماري) دلت على أن الملكة (الحلبية) الأصل أشرفت على النظام الصحي في المملكة متعاونة مع الملك والأطباء، فأبعدت العاملات والممرضات وحجرتهن خوفاً من أن تنقلن وباء تبعاً للقوانين الملكية، ولقد كانت (شيبتو) على صلة دائمة بأهلها في بلدها الأصلي بـ(العنب والفستق والزيتون) دون أن تتقاعس لحظة واحدة عن اتباع النظام الإداري الصارم الشهري الذي يسود (مملكة ماري) وفي الليل كانت تجلس إلى جانب الملك وتفرز له البريد القادم من الممالك المجاورة، وتقرأ له بريد بناته اللواتي تزوجن من الملوك والأمراء، وبريد أخواته اللواتي كنّ ملكات كاهنات وسفيرات وتاجرات.
ومن النساء السوريات اللاتي يجدر بنا ذكرهن (أدو- دوري) بحسب القائمة الأقدم التي توثّق الهرم الملكي، وسكنت ضمن جناح القصر الخاص بالنساء، ثم تم تخصيص مسكن لها، ولا ننسى (أورنينا) وهو اسم مغنية المعبد السورية التي يعتقد علماء الآثار أنها أول من غنّت على سطح الأرض، وكان ذلك في عام 3500ق.م، أورنينا المغنية والراقصة في معبد عشتار في مدينة ماري، ويعتبر تمثال أورنينا أو (أورنانشي) المحفوظ في المتحف الوطني في دمشق من روائع فنون الشرق القديم، يبلغ ارتفاعه 25,4سم وعرضه 13.5سم، ويعود تاريخه إلى بداية الألف الثاني قبل الميلاد، عُثر عليه في معبد عشتار في مدينة ماري الأثرية
ونذكر أيضاً كاهنات القصر مثل (إنشبينا) و(كوشنيم ماتو) و(بخلا توم) كما تذكر النصوص أيضاً (باري كتوم) ابنة الملك (إيبال أدو) ملك (أشلكا)، وهناك أيضاً (يترايا) حيث أخذت المكانة الثالثة، إذ كانت أميرة كما هو حال زوجات (زمري ليم) الأخريات.
وهكذا نجد أن المرأة في مملكة ماري السورية قد لعبت دوراً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً في حكم هذه المملكة التي وطدت علاقاتها مع بابل علمياً وفنياً وثقافياً واقتصادياً، وما أجمل ذلك الحفل الباهر الذي أقامته الفنانة السورية (أورنينا) في قاعة عشتار في بابل.
حقاً إنها حضارة سورية عربية توشحت بقدسية الحضارة العربية.
د.رحيم هادي الشمخي