“لا أستطيع التّنفس”.. العالم يختنق والمضلّل يدافع
“لا أستطيع التنفس”، لم تكن جملة الاحتضار الأخيرة لـ “فلويد”، تقتصر على معاناة شخص بمفرده، بل أتت هذه العبارة لتختصر معاناة وجوديّة كاملة، ولتعبّر عن ضيق عالمي فرضه نظام متعنّت، وأمعن في تكريسه، ليس ضد من يخالفه باللون فحسب، بل ضد كلّ من يكون مختلفاً عنه، ومعه، أيّاً كان الاختلاف، بالعرق أو اللون أوالدين أو الموقف وحتى الرأي، ليمارس أقسى أساليب التضييق والضغط على كل من أعلن المواجهة ضده، لتستحيل القضية إلى قضية وجود، باتت تشغل العالم بأسره..
لم تكن العنصريّة يوماً أمراً طارئاً على الولايات المتحدة، بل هي آفة متجذّرة متأصّلة ببنيته لم ولن تكون التظاهرات والاحتجاجات كفيلة بإخمادها، لكن الجديد هو هذه الاستفاقة والهبّة العالمية ضد التمييز العنصري، والتي تجسدت من خلال الاحتجاجات التي عمّت ساحات العالم، ومن خلال حملات الاستنكار في وسائل الإعلام العالمية المختلفة، وكالعادة، انتهجت بعض وسائل الإعلام العربية النهج المريب والمشكوك في غاياته، ففي الوقت الذي يهاجم فيه العالم العنصرية والطريقة التي تعاملت الإدارة الأمريكية مع هذه الاحتجاجات وما رافقها من دمار وتخريب وقمع واعتقالات بالآلاف تحت ذرائع مختلقة، تأتي القنوات “العربية” لتستميت في الدفاع عن هذه الإدارة بكافة الأساليب والطرق..
ما يثير هو الطريقة التي تعاملت بها هذه الوسائل الإعلامية مع احتجاجات الشارع الأمريكي، والدور الذي أُوكل لها، أو التي هي أوكلته لنفسها، حاملة على عاتقها مهمة الدفاع بعصبية مفرطة عن نظام أمريكي اعترف العالم بأكمله بفساده، مكرّسة جلّ وقتها وساعات بثّها الطويلة لتتوسع في التحليلات والتفنيدات وقلب الحقائق، كي تجد، عبثاً، مخرجاً له، في محاولة يائسة للتغطية على حالة الفلتان الأمني في أمريكا وإنقاذها من الغرق الذي يتهددها، مجسّدة بذلك التخاذل العربي في أقبح صوره..
المفارقة هنا أن وسائل التضليل الإعلامي لا تريد “الرّبيع” المفترض لأمريكا، علماً أنها هي من دأبت، وما زالت تدأب على افتعال “ربيعها” الأسود في الساحات العربية، وتنادي به لتبثّ عبره الفوضى لخلق متوالية من الأزمات التي لا تنتهي، ولنشر “ثورات” زائفة لم تحمل غير الدم والدمار، في محاولة لإشعال المنطقة العربية وتحويلها إلى ساحة للخراب لا أكثر، وفق توجّه إعلامي تنعدم فيه المصداقية والمهنيّة، ويتخذ صبغةً تحريضية طائفية، عبر امتهان الكذب والتضليل، والاستعانة بالخطاب التعبوي، والتلاعب بعواطف الناس عبر أجندة غربية بعيدة كل البعد عن قضايا العرب وهمومهم.
ليس غريباً أن تخرح هذه القنوات من جلدها وتتنكّر لعروبتها لصالح الأمريكي والأجنبي، وهي التي اعتادت تبني هذا النّهج الإعلامي المشوّه والمضلّل، أما التّعويل الأكبر فهو على الحقيقة التي لم تعد خافية على أحد، وسط هذا الفضاء الإعلامي الواسع الذي يتطلّب استقصاء الحقائق، وكشف غايات هذا النوع من الإعلام وتعرية أساليبه، وإدراك أبعاد اللعبة الإعلامية والتّصدي لها بالوعي، بحثاً عن عالم يتنفس السّلام والعدالة والحقيقة.
هديل فيزو