كيف أجاد العرب في رسم علم المعاني؟
إذا أخذنا علم الدلالة فهو يعني ببساطة دراسة المعنى، ودراسة المعنى قديمة، فقد درس العرب وغير العرب منذ أيام أفلاطون لحد الآن، وسمى العرب هذه الدراسة بـ (علم المعاني) فقد وضع الجرجاني نظرية (علم المعاني)، وعرّفه السكاكي بقوله: «إنه تتبع خواص تراكيب الكلام على ما يقتضي الحال ذكره».
وحدد أحمد الهاشمي هدفين رئيسيين لعلم المعاني:
1- معرفة إعجاز القرآن الكريم من جهة ما خص الله به من جوده البلاغة وحسن الوصف وبراءة التركيب ولطف الإيجاز.
2- الوقوف على أسرار البلاغة والفصاحة في منثور كلام العرب ومنظومة، والواقع فإن البلاغيين العرب قد أجادوا في رسم علم المعاني الذي اعتبره أحد الحقول البلاغية الثلاثة جنباً إلى جنب مع البيان والبديع، أما لفظة الدلالة (سمانتكس) التي ظهرت لأول مرة عام 1893 في اللغة الفرنسية فهي تستعمل حالياً للإشارة إلى المسار الجديد الذي اختطته دراسة المعنى في القرن العشرين.
إن علم الدلالة ليس نقيضاً لعلم المعاني ولا وريثاً له، إنما هو مكمل لهذا العلم، الفرق الجوهري بينهما أن علم الدلالة ليس علماً بلاغياً، بل هو حقل لغوي بحت، والفرق الثاني أن علم المعاني يتسم بالوصفية بالدرجة الأولى في حين أن علم الدلالة يراوح بين الوصف والتنظير، وقد مرّ علم الدلالة في عموم اللغات بموجات من المد والجزر، فارتبط علم الدلالة التقليدي بالنمو ارتباطاً وثيقاً (الاسم ما دلّ على …..)، كما دخل المعنى منذ القدم في المسائل الفلسفية الجدلية مثل طبيعة الحقيقة والمفاهيم الكونية، وعل كل حال فقد عملت المدرسة البنيوية الأمريكية التي عاشت عصرها الذهبي في الربع الثاني من القرن العشرين على استبعاد المعنى من مجالاتها بدعوى عدم إمكان دراسته دراسة موضوعية منتظمة.
يقول (بلومفيلد) رائد البنيوية الأمريكية «إن المعنى هو نقطة الضعف في دراسة اللغة وسيبقى هكذا حتى تتقدم المعرفة البشرية كثيراً عما هي عليه الآن».
لقد أساء الكثير فهم هذا القول واعتقدوا خطأً أن البنيوية الأمريكية لا تؤمن مبدئياً بدراسة المعنى، في حين أن الذي قصده (بلومفيلد) هو الانتظار وتأجيل هذه الدراسة لحين تمكّننا من وصف المجردات بالطريقة التي نصف بها حالياً الملموسات، ثم جاءت المدرسة (التحويلية) لترث المدرسة البنيوية منذ أواخر الخمسينيات، وأولى التحويليين اهتماماً كبيراً لدراسة المعنى عندما اعتبروه أحد المكونات الثلاثة لقواعد اللغة إضافة إلى الصوت والنحو، وبسبب عدم استقرار صيغة واضحة للنحو التحويلي لحد الآن فقد دخل المعنى (مع النحو) في جدل نظري حاد بشأن كيفية توليد الجمل في اللغة: هل نبني الوصف النحوي على المعنى أم نبني الوصف الدلالي على النحو؟.
في ظل هذه التطورات نجحت الكفة الدلالية في استقطاب الأنظار إليها منذ أواخر الستينيات مقارنى بكفتي القواعد الأخريين (الصوت والنحو)، فالنحو في الواقع هو المكون الذي حظي بحصة الأسد في الدرس اللغوي طوال القرون الماضية، مما لا يمكننا من مقارنة في هذا المجال بحقلي الصوت والمعنى، أما الصوت فقد رجحت كفته في النصف الأول من القرن الحالي، واستطاع علماء الصوت خلاله من تحقيق قفزات جبارة في تطوير الدرس الصوتي والوصول به إلى أعلى مستويات الإنضاج والتعمق مقارنة بما تحقق حديثاً على الصعيد الدلالي، والسر في ذلك هو تطويع الميدان الصوتي للتحليل العلمي المختبري، وعلى الرغم من كل هذه المعوقات فإن الدلاليين المحدثين راضون بما حققوه في السنوات الأخيرة، وآخذون بعين الاعتبار وعورة طريقهم، فقد نجحوا مثلاً في برمجة دراسة المفردات عن طريق التحليل المكوناتي الذي يختلف عن الجهد القاموسي في أنه يحلل الكلمة إلى أوليات دلالية تتجاوز اللغات الفردية إلى مفاهيم عمومية تنتظم سائر اللغات.
د.رحيم هادي الشمخي
أكاديمي وكاتب عراقي