“في غياب الرب” القصيدة كعبء ثقيل الحضور والغياب في آن
“في غياب الرب” المجوعة الشعرية الثانية للشاعرة السورة “ناهدة عقل” بعد مجموعتها الشعرية الأولى “ليل البتول ” والتي كان لي أن قدمتها في الصحافة الثقافية المحلية، وأنا في نصف استمتاع بين صور شعرية رشيقة حينا وثقيلة الوقع والتكوين حينا آخر، بقصيدة تُشعرك بأن الشاعرة متمكنة من أدواتها الفنية وقصيدة تعطيك الانطباع المعاكس تماما وأحيانا يحدث الأمر في القصيدة الواحدة نفسها.
في “غياب الرب” تظهر شخصية “ناهدة” على طبيعتها بما لها وما عليها برقتها وضغينتها بعنايتها الفائقة بتسريحة شعرها وإهمالها المقصود له، تظهر الشاعرة بتفاصيلها الشخصية الخاصة منها وشبه العامة، بعيدة عن ترسبات الماضي الغائم الرؤية، تتضح المعالم، الشخوص، تنضج الحكايات، لتخرج البتول من ليلها الطويل، متجولة في عوالم الدهشة والريبة والتوجس والفرح أيضا.
في غياب الرب الصادر عن دار التكوين “ناهدة عقل” تذهب نحو مفازات شعرية صافية، أفقها واضح التجلي، مفرداتها أكثر انسجاما مع أدواتها الشعرية التي جعلتها هذه المرة أكثر بساطه، فلا كثافة بالصورة ترهق الخيال ولا بوح شخصي يلبس لبوس كلام المحذر، أيضا الحذر الذي كان واحدا من سمات “ليل البتول” هو ليس موجودا في “في غياب الرب” بكل الثقل الذي كان في الديوان الأول، نعم هو حاضر ولكن من قبيل العادة المتعلقة أيضا بشخصيتها، ولا مفردات تبدو وكأنها خرجت للتو من غرفة الاعتراف الكنسي محملة برائحة بخور، وبوصاياه الثقيلة، لكنها أيضا لم تخرج دون البقية من أنفاسه في ثناياها.
وكنت قد استغربت لرقيق أنثى تنتقي عنوانا صادما ومفاجئا كهذا “في غياب الرب” فكما نعلم تفقد المرأة بشكل عام إيمانها بكل شي إلا إيمانها ببعلها الأكبر العادل الرحيم، الفحل الذي لا يخيب الظنون، هذا لا تفقد الثقة فيه، ولكن هل ما وشى به العنوان صحيحا، هل تمازج الشخصي والعام في حياة شاعرتنا، حتى بدت لها الحياة عديمة القيمة، كثيفة الثقل؟ ثم من هو هذا الرب الغائب وماذا حصل في فترة غيابه التي تبدو وكأنها لم تنتهي عند الشاعرة؟
لنتعرف على الرب الغائب في حيوات ناهدة، يجب علينا أولا أن نفتش عن الحب في هذه المجموعة التي خلت منه.
وربما هذا السبب في غضب العنوان واستكانته بآن، مرسل وحي الشاعرة، حبيبها الأزلي، عرّاب حنينها، ليس موجودا بعد أو ربما قد رحل أبدا، وهي لا زالت عالقة في دوامة غياب “الراحل جوزيف حرب ” الذي تهدي روحه مجموعتها الشعرية والشاعر “نزيه أبو عفش” الشاعر الذي تدين له باعتذار تقرر أن تقوله في قصيدة، ليبقى اعتذارا خالدا ولتبقى مخطئة أبدا أيضا.
تفتح الشاعرة مجموعتها “في غياب الرب” ب حالة خذلان نالت منها تماما / تقول “عقل”/ بالأمس بانتظار أن أحيا ـ كنت أخبئ أشيائي الحميمة كما يخبئ كنز ،واليوم أكثر ما يؤلمني أن أراها طيلة هذا العمر لم تمس”، هذا التطهر الذي تقدم عليه الشاعرة في قصائدها صار هو المسيطر على خيالاتها الشعرية، تلك الموضوعات التي لم تتغير عند شاعرتنا لم تستهوها موضوعات غيرها، الهذيان مثلا الذي يحيط بعالمها الواقعي، لم يحرك رغبتها في اختبار أجنحتها بعوالم أكثر بعدا عن متناول اليد ولكنها أقرب من الوجدان ومن التأثير به، فالشاعرة تريد للألم والحنين الكهنوتي نوعا ما أن يبقى مغلفا عوالمها الشعرية، ولا أدري هنا حقيقة في حال كحال قصيدة النثر كيف يمكننا الحكم على نصوص يتكرر فيها الصوت ذاته دون أي نبرة مختلفة أو اختلاجة أو شهقة عنيفة، في حين يحكم عليها كما اتفقت القواعد أو الأعراف الخاصة بقصيدة النثر، بفرادتها وابتكارها لمفازات مجهولة ، بإشراقها وتوهجها وإيجازها، البهارات الشعرية الغائبة عن روح “في غياب الرب” فالقصائد التي كتبت بين عام 2010 وعام 2014 ، لم تخلص نهائيا من دورانها في الفلك نفسه تقريبا، وربما السبب في ذلك هو الوقت القليل نسبيا بين إصداريها الشعريين ، ووحدة حال الجو العام الذي يحيط بها، لجوؤها الأكثر إيمانا إلى فكرة المخلص وإيمانها العميق برسله من الشعراء الذي يحضرون في ديوان “ناهدة” مثل أو عفش وحرب ربما لشرعنة حالتها الشعرية القريبة من عوالمهما بشكل عام.
يا الله كم يبعد هذا النبع بعد؟ يا الله هل ثمة نبع حقا؟كم يؤلمني بعد هذا العطش أن أموت وحيدة في الصحراء. تخبر هذه القصيدة المعنونة “صلاة بربرية” بنضوج الأدوات المُشكلة للمعنى وعن عدم نضج الثيمة أو الفكرة التي لا تنفك “ناهدة” عن ترديدها في العديد من القصائد سابقا ولاحقا ، السؤال أو الهاجس يتعلق بتطهر غير منطقي في عمل شعري، يقدم نفسه من العنوان -الذي يبدو مترجما أكثر منه مبتكرا- وربما تعلقه اللاوعي بالفوضى نوعا ما، قد تكون فوضى حواس الشاعرة في غياب “الكبير جوزيف حرب” والذي ترك في دواخلها أثرا شديد الصوت، وقد تكون فوضى حياة لم تعد “عقل” بقادرة على التعامل مع مساربها المختلفة بعد أن صار الموت في وطنها فعلا طبيعيا، لا يُحدث في النفس أي ردة فعل تذكر، ما عدا صورة على التلفاز ورقما وأما تبكي وابنة بنظرات تائهة .
من هنا تطل الشاعرة على واقع الحياة الدامي حولها وحيالها في وطنها الذي تربت روحها بين ممراته ودروب مسرته، تتكلم صريحة بالسخرية من “حقوق الإنسان” تلك التي تصبح ترفا في زمن الحرب ، فكما أدهشنا مثلا شعار ” حقي أتعلم ” في الوقت الذي يموت فيه الأطفال بهاوانات الحقد على مقاعدهم الدراسية في مدارسهم أو بفعل سيارة مفخخة كما حصل في العديد من المنشآت التعليمية، من دور حصانة ومعاهد ومدارس وجامعات، أثارت وسط هذا الدم الذي لا يجف حفيظة “عقل” وغضبها شعارات حقوق الإنسان التي جاء الخراب والويل والدمار متسربلا بعباءتها.
تبدأ “عقل”العديد من قصائد المجموعة بإحكام مسبوك ببساطة ولغة لافتة، لكن سرعان ما يتلاشى ذلك الخيط السحري الناظم لجو القصيدة العام، بحيث تأتي جملة في القصيدة وكأنها لون قوي نافر من الإطار، نقرا في قصيدة “وجهي حزين”: وجهي حزين، حتى في صور طفولتي وجهي حزين، هكذا لسبب قد لا يعرفه من سواه وجهي حزين” القصيدة حسنة السياق حتى هاهنا، ثم تأتي الجملة التالية:” حسنا غضوا أبصاركم، سيظل وجهي حزينا” وكأن صوتا مختلفا دخل في فعل الكتابة، راح يفكر ويكتب غير تلك التي بدأت القصيدة.
في غياب الرب يذهب نحو تشذيب الكلمة أو لنقل نحتها حتى بشكلها الأصلي، وذلك لتطويعها في عوالم أخرى فيها ما فيها من براكين الأنثى التي بدأت ثورتها الداخلية بالاندلاع ، لكنه يتخلى عن بحثه المشروع والضروري، يتخلى عن الثيمة الفريدة أو طرقها من ناحية فكرية أكثر اختمارا وأعمق حالا، ولربما المزاج الغير منسجم بين قصائد الديوان يشي بالسرعة التي اشتغلت فيها ناهدة على جمع قصائدها بغض النظر موائمتها لروح الكتاب ونفسه الأصيل ، كما لو أن الشاعرة تريد أن تقول وداعا للشعر ، كما لو أنها في غياب الرب فقدت رسل وحيها مرة واحدة وإلى الأبد.
تمّام علي بركات