شجون الانتخابات.. ثقافة وممارسة
د. عبد اللطيف عمران
الانتخابات بشكل عام جوهر الديمقراطية، وهي قائمة على مبدأ التمثيل الذي هو القاعدة التي تتحقّق على أساسها الديمقراطية، وتتوافر جراءها الحريّة، على ما هنالك من فروقٍ بين مفهومي الديمقراطية والحريّة، فالأول: سياسي مؤسساتي، والثاني: فلسفي فردي.. إلخ. وكذلك بين مفهومي الانتخابات والاستفتاء، فالأول: تمثيلي، والثاني: بنعم أو لا.
وبشكل عام، يقوم مبدأ التمثيل في الانتخابات على اختيار الشعب ممثليه الذين يشكّلون السلطة التشريعية التي تخضع من خلالها السلطة التنفيذية لمراقبة الشعب ومحاسبته، فالانتخابات تمنح المواطن الفرصة للمشاركة في إدارة الشؤون العامة للدولة، وفي صياغة القرارات والسياسات العامة: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولاسيما حين تتحوّل الأصوات إلى مقاعد تمثيل وحكم في آن معاً.
في هذا السياق، كانت انتخابات الدور التشريعي الثالث فرصة مهمّة جداً لأبناء شعبنا لاستحواذ القرار عن طريق اختيار ممثليهم لصياغة هذا القرار وتنفيذه، ويبقى السؤال مستمراً: هل أحسنّا استثمار هذه الفرصة؟ خاصة أن ميادينها كانت أرحب من الدور التشريعي السابق.
في سورية، ورغم الحرب عليها، والعدوان على شعبها وأرضها وقيمها وثوابتها، لم تتوقف لحظةً الاستحقاقات الديمقراطية القائمة على مبدأ الانتخابات ثقافة وممارسة، ويعدّ قانون الانتخابات العامة رقم 5 الصادر بتاريخ 17/ 3/ 2014، بناءً على ما أقرّه مجلس الشعب في جلسته المنعقدة في التاريخ ذاته، أنموذجاً جيداً ومتقدماً لقوانين الانتخابات في العالم، في فصوله الخمسة عشر ومواده المئة وتسع وعشرين، وخاصة في التعليمات التنفيذية للقانون الصادر بقرار رئاسة مجلس الوزراء رقم 10 بتاريخ 16/ 4/ 2014.
ومن الجدير بالذكر أن هذا القانون لم يكن موضع الالتزام والتطبيق فقط في انتخابات رئاسة الجمهورية ومجلس الشعب والإدارة المحلية، بل كانت روحه حاضرةً إلى حدّ كبير في انتخابات المنظمات والنقابات والحزب أيضاً، من حيث توافر شروط الممارسة الديمقراطية، وحضور مبدأ التمثيل المهمّ فيها، ولاسيما في انتخابات الدور التشريعي الثالث التي سمعنا خلالها كثيراً من الكلام لمواطنين لم يكلّفوا أنفسهم عناء، أو واجب، قراءة هذا القانون الذي يبدو أن جهوداً كبيرةً توافرت لصياغته وإقراره.
رافقت انتخابات الدور التشريعي الثالث أسئلةٌ مفتوحةٌ ومستمرةٌ، بما فيها من تطلعات وآمال وقلق، وشكوك أيضاً، نكاد لم نعهدها من قبل، وإن هي إلا دليل على مجتمع آخذ بالتعافي من أقسى وأمرّ استهداف عرفه الآباء والأجداد، مجتمع وطني يتطلّع بعيون واعدة رانية إلى الخلاص من الشرور والأحقاد والضغائن والانتماءات الضيّقة التي فرضتها الحرب عليه، وها هو آخذ في لفظها، ولملمة جراحه، وشدّ عزيمته للمزيد من التمسّك والاعتزاز بأرضه وشعبه وجيشه وقائده، فكاد حديث الانتخابات يكون حاملاً هذا جميعه.
إنه لمن دواعي التفاؤل والاعتزاز أن نرى ونسمع الأشقاء والأصدقاء وأحرار العالم وشرفاءه يكبرون في شعبنا إنجاز هذا الاستحقاق في معترك مصيري صعب، تضافرت على قساوة يوم إنجازه حرارة الشمس، مع بداية موجة انتشار وباء كورونا، وأوضاع معيشيّة صعبة أساسها العقوبات والحصار والاحتلال، وفوق هذا فتح أبواب النقد والمراجعة القاسية، ما يجعل من هذه الانتخابات بالمجمل محطة إيجابية، لم يكن النقد ليضيرها، بل يفيدها، ويفيد عمل المجلس القادم، ومستقبل البلاد من حيث تطور الشعور بالوعي والمسؤولية.
نعم الانتخابات امتحان، وعادةً في الامتحان يُكرم المرء أو يُهان، وعادةً فيه براعة ويقظة، وغفلة وغش أيضاً، فإذا تكاثرت الشروط والضغوط صار التعيين أفضل منها..
في هذه الانتخابات كانت الشروط موضوعية، وطبقاً لأحكام القانون، لكن البعثيين في استئناسهم عانوا ما عانوه، ولاقوا ما لاقوه، وهذا لابد درس جيد، متنوّع الفصول، تضافرت عليه جهود كبيرة لتحقيق المنشود منه، والذي يجب أن يكون كبيراً وواعداً.
إن درس الانتخابات والاستئناس يجب أن تكون مفرداته قواعد بيانات، وسبيلاً نحو الأفضل، ففيه عليك أن تعرف أن هذا حق شخصي لك، تتوسّع فيه صلاحياتك وحضورك، وأنه واجب وطني عليك أيضاً ألا تتقاعس عن القيام به، والإقبال عليه.
في هذا الدرس يجب أن تفكر في رأي من يقول: إن المال الانتخابي صحيح محدّد بالقانون لكنه ليس حراماً، وليس مالاً سياسياً، ولا ضد الأخلاق والعادات، وعليك ألّا تصادر رأي من يقول: إن لهذا المال جانباً إيجابياً كديناميكية وطنية تنافسية تُرفع في حملاتها شعارات إيجابية ليس بالضرورة أن تكون زائفة، فتقييدها يجعل المناخ قاتماً.
وفيه أيضاً لا يغيب السؤال أن منتسبي الأحزاب والمنظمات والنقابات أكبر عدداً بكثير من نسبة المقترعين، فنحن بالأساس مجتمع سياسي منظّم، وعلينا أن نحافظ على هذا المجتمع ونفعّله ونطوّره، ونقنع أنفسنا أن وظائف هذا المجتمع ومهامه قد تغيّرت. أو يجب أن تتغيّر.
وبالمحصّلة: علينا قبول النتائج، وإن أفرزت أشخاصاً لا نرضى عنهم، إذ ليس بالضرورة أن تفرز الانتخابات أناساً طيبين دائماً.. وهنا علينا ألّا نتركهم، بل نعمل عليهم، ومعهم، حتى لا يكون مجلس الشعب القادم حملاً على الدولة والشعب.