قرار قديم “أحرق” لبنان قبل حريق المرفأ.. جارنا سيجوع و رؤية جديدة لعلاقة ” الموائد المفتوحة” مع سورية
نقل لنا أحد الأصدقاء قولاً شهيراً للحريري الأب ” لماذا نزرع وسورية على بعد ضربة حجر من هنا”..والرجل كما نعلم كان مسكونا بهواجس الاستثمار المالي والعقاري والخدمي وليس إلا..وقد حوّل لبنان إلى اقتصاد يتماهى مع توجهاته كأكبر ثري موجود هناك ..وهذه هي نفحة ” الحريرية الاقتصادية” وكانت البصمة الجديدة القاتلة للاقتصاد اللبناني.
الحقيقة المُرّة الآن أن ..لبنان سيجوع حتماً ..مهما تعددت الهبات والمساعدات، التي ستأتيه في سياق ” الفزعة الدولية” التي توالت النيّات بشأنها من كلّ حدبٍ وصوب..لأنها مساعدات إنقاذيّة و إسعافية ذات طابع طارئ على خلفية الانفجار – الزلزال – الذي وقع أمس في مرفأ بيروت..أي تماماً كما مراسم العزاء المؤقتة التي تترك أصحاب المصاب للمعاناة ” يقلّعون أشواكهم بأيديهم”.
لبنان سيجوع لأنه بلا موارد، ولسبب كئيب ومستفزّ أيضاً وهو أنه تخلىّ عن موارده بقرار تعسّفي بكل معنى التعسّف، وجنح في غواية الريعية غارقاً في دهاليز القطاع المالي، ذي العائدات المجزية – على البارد – ودورات رأس المال السريعة التي لم يعرفها اللبنانيون يوماً في حكايتهم مع الزراعة ولا مع الصناعة..
كان لبنان في سبعينيات القرن الماضي – أي منذ نحو 50 عاماً – مصدر الأسواق السورية من سلّة منتجات زراعية لم تكن موجودة في سورية ” حمضيات ..تفاحيات..لوزيات”..ومنتجات صناعة تحويليّة لم تكن موجودة في سورية ” المناديل الصحية أو المحارم ..بن مطحون..منظفات..معلبات غذائية..” ..حتى أننا في سورية نطلق على عموم أنواع مناديل المحارم اسم ” كلينيكس”..وهي ماركة لبنانية شهيرة دخلت إلى سورية حين لم يكن لدينا هنا مصنع واحد لهذا المنتج.
إلّا أن نهضة صناعية وزراعية شهدتها سورية، تكفّلت بإتاحة منتجات التنمية الحقيقية زراعية وصناعية أمام اللبنانيين..وعلى مقربة منهم..ليعلنوا تدريجياً تفرغهم للجانب المالي والريعي الخدمي..وزراعياً لزراعة أصناف لها خصوصيتها الشديدة التي نعرفها جميعاً..أي بقي لبنان بلا زراعة وبلا تصنيع زراعي..
بالأمس كان الانهيار الكبير أو ” الشعرة التي قصمت ظهر البعير” ..انفجار هائل في مرفأ بيروت ..أتى على مخزون القمح ..ومخازين الدواء..والأهم أو الأخطر أنه قطع الشريان الحيوي الرئيس الذي يعزّي هذا البلد..فما الذي بقي للبنانيين ؟؟؟
سيكون اللبنانيون أمام معضلة معيشيّة حقيقية..بدءاً من رغيف الخبز..مروراً بكل أنواع السلع الزراعية والصناعية..وصولاً إلى الأدوية، وستكون خياراتهم الأولى بالاعتماد على ما يتوفّر لدى سورية الجار الجاهز دوماً للإغاثة..
لكنّ سورية ليست أحسن حالاً ..وكما يقال: فيها ما يكفيها من أزمات..تسبب بها الحصار وقرارات ” الخنق الاقتصادي البطيء” التي كان آخر قانون قيصر..بالتالي بالكاد تستطيع تأمين ما يلزم الشعب السوري من احتياجات غذائية ” معاناة شديدة في تأمين السماد للزراعة والأعلاف للثروة الحيوانية وكل مستلزمات التصنيع من مواد أولية”..وسيشكل اللبنانيون ضغطاً هائلاً على الموارد السورية..إن لم يكن استيراداً نظامياً في القنوات المشروعة، فسيكون تهريباً والأدوات جاهزة والمعابر معروفة كما ما زال المهربون يعلنون جاهزيتهم ولو بصمت..
لكن لا بدّ من حلّ في المحصّلة..فما الحل ؟؟
الواقع لدى سورية صادرات جيدة رغم الحصار..وخصوصاً صادرات المنتجات الزراعية النباتية والحيوانية الموسمية، معظمها يتجه نحو الأسواق العراقية بشكل رسمي عبر المعابر النظامية..ولديها ما يذهب إلى لبنان تهريباً كالعادة..
أمام الظرف اللبناني الصعب..يمكن تحويل الصادرات السورية نحو لبنان كأولوية متقدمة في العلاقة بين الجانبين..لكن وفق اتفاقات تتولاها حكومتا البلدين، وفق حصص وكميات محددة..وليس المهربين.
والمهم أكثر ألا تتحول الأراضي السورية إلى نقطة عبور للسلع التركيّة المعدة للتصدير – تهريباً – إلى لبنان ..فسورية ممر إجباري حالياً لكل ما سيدخل إلى لبنان خلال المدى المنظور، لأن مرفأ بيروت كان البوابة الأكبر وواجهة لبنان على العالم، وهو الآن خارج الخدمة تماماً.
على العموم سنكون أمام حاجة ماسّة لترتيب جديد للعلاقة مع الجار..فهذا هو إملاء الواقع أو الأمر الواقع وإن كره الساسة هناك، الذين اعتادوا على الاستثمار في ” شتيمة كل ما هو سوري” وهم جالسون على موائد عامرة بالمنتجات السورية الرخيصة التي وصلت إليهم تهريباً.
هامش1: يُحرم السوريون من الأسماك لأنها تهرب كل صباح بقوارب خاصّة من الشواطئ المهجورة إلى شواطئ بيروت.
هامش 2: تنطلق باخرة كل شهر من مرفأ بيروت باتجاه دول الخليج محملة بآلاف رؤوس أغنام العواس السوري المهربة ..وأعداد منها تنقل جواً.
هامش 3: كميات كبيرة من الحليب تُهرب كل صباح من مناطق حمص الحدودية مع لبنان.
هامش 4: قوافل تهريب الخضار لها حكايتها الخاصة والطويلة.
ناظم عيد – موقع الخبير السوري