في زمن البحث عن مدوّنة روحيّة
وسط تزاحم الأيام والوجوه، وتشابه الألوان وتوحّدها لتخلق لوناً واحداً لا لون فيه، يعلن كلّ منا في لحظة ما رحلة الهروب من الواقع بحثاً عن أمل، وفي الظل الفاصل بين الوعي واللاوعي تتراءى لنا صور وأصوات من رحلوا، من كان لروحهم حضور يعاند الموت ويغلبه، ليعلنوا الحياة بكل وجوهها، تنادينا أصواتهم الصامتة بقوة، عابرة كل المسافات والحدود، مجتازة الزمان والمكان لتصل إلينا، تسرقنا من أنفسنا لتنشلنا من صمت قاتل وخواء يستجدي الحب والسكينة.
أصوات خالدة تذكّرك أن هناك في الأفق ما ينتظر وعلينا الرنو إليه، وأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة، تمر من أمامك أخيلتهم لتعيد على مسامعك أنشودة الحياة والإنسان والوطن، بكلمات ليست كالكلمات هي أرواحهم التي تنسكب حبراً يدون بمداد الحب لا الحبر..
مع الكلمة يناديك شعر القباني ويحرّك داخلك بعض مشاعرك المنسية المركونة في زوايا الروح لتتحيّن الكلمة وجوداً لها في عالمك لتعلن عن نفسها وأن ما عليك سوى أن تقرأها أو تسمعها لتمنحك جرعة من حياة وربما من حزن لكنها في الحالتين تحييك، تعيش معه الحب وكل مسرّاته كما تعيش معه الموت متجسداً بموت أحبائه، تسمع معه نداء البحر، وتدخل برفقته مدن الأحزان من أوسع أبوابها، لكنك تخرج منها بطلاً منتصراً..
بالكلمة يهمس محمود درويش في أذنيك ويجعلك تنبعث من الرماد، يعلمك أنّ الوطن ليس سؤالاً تجيب عليه وتمضي، إنّه حياتك وقضيتك الأبدية، يعيد إليك أحلامك المسلوبة ونورك الذي بقي هناك في مكان ما بين حروفه التي حفرت داخلك عميقاً ورسخت فيك ما سيبقى من عنفوان وكرامة.
يحييك سعد الله ونوس بأمله اللامتناهي ليمزج رائحتك برائحة أخرى هي أشبه برائحة الوطن وتراب الأرض ويعلمك كيف تكون الذاكرة أقوى من الموت، وكيف بالكلمة تستطيع أن تقاوم الموت وتخلق الحياة، حياة مختلفة لا مكان فيها للاستسلام أو التنازل.
من خلال الكلمة يدعوك ممدوح عدوان لعالمه المختلف والمجنون وسط الرغبة في المشاكسة ليدافع عن فقرك وحرمانك ويجعلك قضيته الأولى والأخيرة، ليتماهى فيك ويتقمص شخصك وينطق بلسانك.
أين هذه الأصوات أمام ما نمر به اليوم، وإن كانت كلمتهم الملجأ والمسكن لكل نوازع النفس وكوامنها، وما زالت، فمن يحمل على عاتقه المهمة اليوم وفي قادمات الأيام، من يحمل رسالتهم ورسالة الإنسان، والواقع أنه ما من بديل أدبي حقيقي يملأ الفراغ، ويعبد طريق الحلم والحب ويتصدّى لنوائب الدهر.
ورغم اليقين أنه في كل زاوية وركن في هذه الأرض هناك الكثير من التجارب الإبداعية التي يعتدّ بها، والتي قد تؤسّس لتجربة تضاهي من سبقها، لكننا أمام واقع يحيَدها فتموت في مهدها دون أن تأخذ حقها في الوصول، لندخل في دائرة فقر أدبي، في بلاد كل ذرة تراب فيها تنطق أدباً.
الكلمة هي روح الحياة، وهي الباعث الأكبر على البقاء والنهوض، والمعبر الأمثل عن كل ما يعترينا من مشاعر من حقها أن تظهر للعلن، هي الملجأ في زمن الخيبة، والأمل في زمن الحلم ومن سبقونا في حمل الرسالة، استمروا في التمسّك بها لأنهم كانوا يدركون أنه بالكلمة أولاً نستطيع أن نبني إنساناً ونرفع راية وننصر قضية، ونحن في زمن أحوج ما نكون فيه لإكمال المسيرة بخلق مدونة روحية تحاكينا بكلّ ما فينا.
هديل فيزو