قراءة في فكرة من أفكار خطاب الدور التشريعي الثالث: الحاجة إلى بنية نفسية صامدة وثقافة عقلانية قويّة
د. عبد اللطيف عمران
كان خطاب السيد الرئيس بشار الأسد في افتتاح الدور التشريعي الثالث تاريخياً لأسباب واضحة في دلالاته العديدة والمتنوّعة، وهو بالمقابل لم يأخذ حتى تاريخه -كما يرى كثيرون- حقه من القراءة لأسباب أيضاً.
في الواقع عادة ما يبني خطاب افتتاح الدور التشريعي، وخطاب القسم لولاية دستورية جديدة، استراتيجية مرحليّة متكاملة الأبعاد، وهما في هذا يختلفان عن غيرهما كرسالة إلى عدد كبير ومتنوّع من المتلقّين. فالرسالة المنشودة من الخطابين تكون منتظرة ومترقّبة وفق ما يعرف في علم النص بـ(أفق الانتظار ومسافة التوتر) في هكذا ظروف تمرّ بها البلاد والأمة، ومعروف تاريخياً عند العرب الأهمية السياسية والاجتماعية للخطابة.
فقد كان تلقي خطاب الدور التشريعي الثالث في هذا السياق، ليس متكئاً على البنية الكتابية لنص الخطاب فقط، بل على الحالة الذهنية التفاعلية والتوالدية التي واكبت ساعة الإلقاء بخروج لمرات عديدة عن النص إلى مناخ من الشفاهيّة والتقريرية التي عزّزت وصول الرسالة بوضوح إلى جمهور المخاطبين (المتلقين) -والفرق معروف بين الشفاهيّة والكتابيّة-، وهذا ما أغنى الوحدة الموضوعية لنص الخطاب، في وقت حافظ فيه على وحدته العضوية كمناخ إستراتيجي متماسك من حيث الهدف.
أمّا المتلقون فهم أنواع: المواطن- المسؤول- السلطة التشريعية الجديدة- السلطة التنفيذية القادمة، والتي يبدو أنها ليست الحكومة وحدها أو الوزير بحدّ ذاته. فرئيس القسم، والمدير الفرعي والعام، والمحافظ… كلّ من هؤلاء مسؤول تنفيذي من باب: توسيع دائرة المشاركة في اتخاذ القرار – وباب: كلكم راعٍ وكلكم مسؤول، وباب حاجة الجميع إلى بنية نفسية قوية صامدة بعيدة عن الروح الانهزامية وآثار هذه الروح ومضارها على الفرد والمجتمع والدولة، والأخيرة أسهب فيها السيد الرئيس بتركيز واضح أن الضرورة اقتضته، والظروف تطلبته.
من الواضح أن تخيّر فكرة واحدة للوقوف عليها من أفكار الخطاب ينبغي ألا يصرف المهتم عن أهمية بقية الأفكار، وألا يشعره أن هذا التخيّر هو اختزال أو إغفال، لكن فكرة مواجهة النفسية المنهزمة من الداخل هي غاية في الأهمية، في وقت تأكّد فيه أن أعداء الشعب والوطن والأمة استهدفوا أول ما استهدفوا البنى الفوقية للشعب: الوعي- الهوية- الانتماء- الوحدة الوطنية، قبل أن يستهدفوا البنى التحتية للدولة: الطرق والجسور والمنشآت والمؤسسات، فكان الاستهداف المعنوي (الفوقي) مقدّمة وأساساً للاستهداف المادي (التحتي)، وفي هذا السياق يستمر هذا الاستهداف – كما أكد السيد الرئيس-: (لتحطيم المعنويات- اهتزاز ثقة المواطن بالدولة- تحويل المواطن إلى كائن مهزوم من الداخل- خلق مواطن يسوّق تشاؤمه وسوداويته قسراً لدرجة أن جملة تدعو إلى التفاؤل أو الثبات والصمود تصبح بالنسبة إليه معيبة، ويصبح قائلها منفصلاً عن الواقع- تعميم المزاج السلبي على الآخرين… وصولاً إلى حالة الاستسلام المجاني).
هذه النفسية الخطرة والمحبَِطة -بفتح الباء وكسرها- طبيعي أن تظهر في هكذا ظروف صعبة، لكن من الطبيعي، والواجب أيضاً درء خطرها بتأكيد الحاجة إلى بنية نفسية صلبة صامدة ينتجها وعي مطابق، وثقافة عقلانية قويّة، فـ(الإنسان المحبط لا يعمل) و(لا أعتقد أن هناك شخصاً يملك الحدّ الأدنى من الوطنية يقبل بالطروحات الانهزامية اليوم بعد كل هذه التضحيات التي ليست هي بالمجان، إذ لها ثمن، ثمنها الصمود، ثم الانتصار).
ووفق الرؤية الدقيقة والموضوعية اللازمة لمواجهة الانهزام والتشاؤم، فإن الدعوة إلى الصمود، والأمل والعمل، وصولاً إلى التفاؤل بالانتصار، لم تكن إلا واقعية، ليست حالمة، ولا تعني أبداً غضّ النظر عن الخلل، والجرأة في ذكر مواطنه، وسبُل تجاوزه، ذلك بناء على أننا (في منطقة من صفاتها العيش في حالة إنكار للمشكلات، وإهمال لمعالجتها)، ولذلك يغدو تحرير الأرض من الإرهاب بالصمود نظير تطهير المؤسسات من الفساد بالقانون، فـ(القانون والفساد لا يلتقيان في مكان واحد- والوطن لا يمكن أن يصمد وهو يُنهش من قبل الإرهابيين، ويُنهب من قبل الفاسدين).
ومن هذا القبيل كان الحديث عن الفساد من جهة، والقانون من جهة ثانية غاية في الأهمية لتعزيز الثقة والأمل، ودحر الانهزامية والتشاؤم.. لكن ليس هذا موضوعنا على أهميته.
كان حديث الفساد في هذا السياق -كظاهرة تاريخية- مهماً جداً، فتاريخيته تؤكد استمراريته وقدرته على التجدّد، وللأسف هو ظاهرة إنسانية من قبيل الآية الكريمة (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟)، فكان لا لأعواد المشانق (لأن القال والقيل، والآراء الشخصية – الأهواء – تبني غابة ولا تبني دولة- والقضية قضية إصلاح وليست انتقاماً ولا فشة خلق).
أما حديث القانون والتشريعات، فإعادة التركيز عليه ليس من قبيل أن تقادمه عبر الزمن يعطي الفاسدين منَعة ولقاحاً، بل إن هكذا ظروف تنعكس فيها عوامل عديدة منها العلاقة الشائكة بين النص القانوني ومعطيات الواقع عند القاضي، على سبيل المثال، الأثر السلبي لعدم استقرار سعر صرف (ليرتنا) في قانون الأحوال الشخصية، وأثر ذلك في تباين تقدير قيمة تعويض النفقة على الزوجة والأطفال، وهنا نقع فيما يُعرف بالمدرسة الواقعية في فلسفة القانون، وتعني في بعض ما تعنيه أن القانون ليس هو النص فحسب، بل هو (ما تطبقه المحاكم)، فكثيراً ما تكون الأحكام القضائية ليست عنواناً للحقيقة.. وهذا له أهله المختصون، لكنه مهمّ في تعزيز الثقة بالمؤسسات وفي إضعاف سلبيات القال والقيل والأهواء.
نعم، نحن بأمسّ الحاجة إلى تعزيز الثقة بأنفسنا وبمؤسساتنا الوطنية بناء على ثقافة عقلانية موضوعية، نواجه فيها من يستهدفنا بتعويم الانهزامية والتشاؤم والإحباط، وقد نهض خطاب السيد الرئيس بجانب واضح في هذا المجال -تعزيز الروح المعنوية-، وعلى المؤسسات المعنيّة -وهي عديدة- أن تتضافر جهودها لتنفيذه واقعياً.