عندما انزلق السوريون في غواية الاستهلاك..خسرنا ” الخمير والفطير”
محبط الإصرار الواضح على معاندة الظرف العصيب، والتمسّك الذي نبديه نحن السوريين بمظاهر الاسترخاء – على فقر وعوز – إذ لم تفلح أزمتنا الاقتصادية الخانقة في دفع الكثيرين إلى العودة إلى مطارح الإنتاج الحقيقي، وما زلنا مأخوذين بغواية الوظيفة والدخل المحدود، نكافح وننافح كي لا نعود إلى مضمار إنتاج الكفاية، بما أن ثمة فاصل زمني بات شاخصاً وتكفّل بأن ننسى خيارات التدبير والاكتفاء الذاتي التي كانت خصلة ضمنت الاستمراء والبقاء طيلة سنوات وعقود مديدة من الزمن.
لقد تحوّل الميزان التجاري للأسر الريفية إلى عاجز بامتياز في السنوات الأخيرة بعد أن تحول معظم هذه الأسر إلى مستورد دائم دون أن تحتفظ بدورها التصديري /الصغير/ إلى المدن الكبيرة في تراجع اقتصادي واضح .
فالمراقب لحركة سيارات نقل البضائع بين الريف والمدن السورية يلحظ بوضوح هذا العجز الذي يمكن أن نقيسه على الميزان التجاري الأشمل، هذه السيارات كانت تذهب في الماضي محملة بالألبان والأجبان والخضروات بأنواعها متجهة إلى أسواق الهال وأسواق البيع الأخرى لبيع حمولتها والعودة بسلع يعجز الريف عن تصنيعها، والآن تبدلت حمولاتها وأصبحت توافي الريف بالخضروات والألبان والأجبان والمنتجات الغذائية الجاهزة بعملية عكسية لسبب وحيد يمكن تلخيصه بأن الريف تحول من منتج إلى مستهلك بامتياز ومن مصدر إلى مستورد لسلع كانت تكفيه ذاتياً، وبأن ثقافة الاستهلاك سيطرت على عقول هؤلاء في ظاهرة يمكن أن نصفها بتمدين الريف.
انحدار
تغير نمطي – لم تشفع الأزمة الخانقة الراهنة بتصحيح تشوهاته – أصاب أسلوب العيش وبدَّل مفاهيم ووظائف أماكن أخذت صبغتها تاريخياً ووظيفياً تبدل خلاله البيت الريفي من مؤسسة اقتصادية مكتفية ذاتياً ومصدر لمختلف المواد الغذائية إلى مستهلك ومستجرٍّ للسلع ما جعل أفراد هذه المؤسسة ينزعون للكسل والراحة المفرطة والاتكال وتسليم أنفسهم للفراغ مكتفين بما تدره الوظيفة أياً كانت أو العمل بالخدمات بدل الزراعة التي أصبح من يعمل فيها يصنف في آخر السلم الاجتماعي حتى في العرف الريفي، ومن يعمل بأرضه وينتج منها ولو كان لديه دخل آخر يشار إليه بالأصبع على أنه جشع ويريد البيضة والتقشيرة نظراً لنمو رأس ماله /حسابياً / لما يوفره عليه العمل بالأرض .
ومن جهة أخرى تحولت الأرياف إلى مناطق اصطياف ومنشآت وأماكن استجمام وتحولت أغلب أراضيها إلى مقاهٍ ومقاصف وزحفت الكتل الإسمنتية لتستوطن على الأراضي الزراعية بعد انتشار مظاهر العمارة الضخمة على الرقع الزراعية وتفضيل قطع الأشجار وتصحير الأراضي عمداً لتوسيع رقع العمارات بفضل السباق بالتباهي بحجم هذه العمارات ومرفقاتها من ديكورات وحدائق امتلأت بالورود والأشجار الغريبة عن بيئاتنا حتى بتنا نرى الآن محاضر مدينية الطابع متوضعة في القرى التي أثارت شهية المستثمرين العقاريين لتحقيق ربح زائد مستغلين انخفاض أسعار الأراضي فيها وإغراء المزارع الذي اختلت علاقته بأرضه بأثمان مرتفعة قليلاً.
اختلال
ليس المتهم الوحيد في التنكر لحياة الريف، دخول التكنولوجيا والعصرنة إلى كل أساليب وأدوات حياتنا، وإنما لعدالة التوزيع بالجوانب المختلفة الدور الكبير وتتجلى بغياب التنمية المتوازنة بين المناطق والمحافظات أولاً وبين الريف والمدينة ثانياً، وبالعرف الاقتصادي غياب التوازن في التنمية أخطر من عدم التنمية ذاته، فعندما تغيب التنمية أو تقل أو تضعف في منطقة معينة عن أخرى سيلجأ الناس في تلك المنطقة إلى أخرى أكثر تنمية ما يؤثر سلباً على المنطقتين، والتنمية المتوازنة يجب أن تبدأ بخطط التنمية المكانية الاقتصادية والاجتماعية المستندة إلى اقتصادات الحجم والمشاركة الفاعلة للمجتمع المحلي وما يحققه ذلك من مكاسب، وهذا ما أدى إلى غياب فرص العمل والخدمات وتدني مستوى الصحة والتعليم في بعض المناطق وغياب الاستثمارات التي يمكن أن تشغل الأيدي العاملة فهجر الناس أراضيهم واتجهوا نحو /أضواء / المدن وخدماتها ليعملوا بالتجارة البسيطة أو الخدمات في نوع من هدر الكرامة ومنهم من تمسك بالوظيفة الحكومية وفضلها على العمل بالزراعة مكتفياً بما يأخذه نهاية الشهر من حسبة مجمعة، معللاً ذلك بضعف العائد الزراعي أمام التكلفة المرتفعة مع أنه لو تم حساب العائد المادي والمعنوي إلى التكلفة لوجد أن هذا العائد أكبر بكثير من التكلفة وإن كان هذا العائد قليلاً يمكن أن يضاف إليه حفظ ماء الوجه ونظافة ما يأكل، فالتنمية المتوازنة في النهاية تعني كيفية توزيع مخرجات النمو بما يحقق المستوى المعيشي المناسب لأفراد المجتمع كما يقول خبراء الاقتصاد، والنمو هو وسيلة للوصول إلى التنمية المستقلة المتوازنة والمستمرة لكن عندما يصبح النمو هو الغاية فإنه سيكون على حساب التنمية بشكل أكيد ويرى أن هناك فرقاً كبيراً بين الاستخدام الصحيح والمجدي للإمكانات والموارد للوصول إلى نمو يكون قاعدة تنموية وفق برامج وأسس وخطط واضحة لا رقماً مجرداً، وبالتالي فإن النمو المترافق مع ازدياد الفقر والبطالة والأمراض الاجتماعية دليل على تعثر واختلال في عملية التنمية .
ويوضح أحد الخبراء أن العمل التنموي عمل متكامل إذا حصل خلل أو قصور في أي مجال فيه انعكس على مجمل مخرجات العملية التنموية سواء على المستوى المكاني أي بين المحافظات أو ضمن المحافظة الواحدة بين المناطق أو بين الريف والمدينة أو حتى على المستوى القطاعي وهذا ما يسبب نتائج سلبية تعرقل النمو والتنمية وتؤدي إلى إخفاقات كبيرة في هذا المجال.
عودة للاسترخاء
ما نعانيه الآن من تمدد العشوائيات وتضخم المدن وصلنا إليه بخطانا المتعثرة بعد الهجرة المكثفة من الأرياف التي خرج معظمها من دائرة التنمية وولدت فرص العمل خارج القطاع الزراعي الذي هجر عمداً من المتنفذين والعاملين فيه ما أدى إلى إهدار الطاقات القادرة على استصلاح الأراضي الزراعية وتوجهها إلى المدن للعمل بنصف طاقتها ومن لديه حيازاته الخاصة تركها لكبار السن والنساء أو عهد بها إلى شخص بأجر يتولى خدمتها وإن رغب صاحبها العمل فيها يترك ذلك لأيام العطل والإجازات ما انعكس سلباً على ضعف المحاصيل المنتجة وانخفاض سعرها التنافسي، أضف إلى ذلك بيع الكثيرين لأراضيهم بعد أن أصبحوا جزءاً من المدن فتفتتت المساحات الزراعية الكبيرة وصغرت الحيازات، وما نراه الآن من ظاهرة إياب إلى الريف ليس بدافع التمسك بالأرض والتعقل وإنما لغايات الاستجمام والبعد عن الضجة والترفيه وزيارات الواجب وبناء مزارع حدائقية خاصة.
وجه آخر للتنمية
كثيراً ما ننادي بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، ولكن الأهم برأي من يغوصون في التفاصيل والأبعاد أن نبدأ أولاً وفي كل مطرح بالتنمية العقلية- الذهنية والثقافية، فثقافة الاستهلاك والاتكالية طغت على ثقافة الإنتاج والاستقلالية وتبديل المفاهيم يستوجب تحفيز الناس على ثقافة الإنتاج وخاصة في الريف بعد أن نحدد لهم المشكلات ونضع الحلول، فلا يمكن لأحد أن ينجح إلا إذا كان محباً للعمل والإنتاجية ومتحلياً بثقافة العمل، وهذه الثقافة الاتكالية السائدة في الأرياف تجعل من المحزن رؤية مساحات كبيرة دون زراعة مع أن المستلزمات متوفرة من ماء وأدوات زراعية ووقت، لكن من يغيب هو /الهمم/ والمحزن أكثر اللجوء إلى المخازن أو الباعة الجوالين لشراء حاجات المنزل من الخضار مهما صغرت مع أن زراعة هذه الخضروات لا تحتاج إلى رأسمال أو عناء زائد، لكن الأمر برمته يمكن وصفه بتسلل الكسل إلى العقول .
مدن جائعة
هناك من يرى صائباً أن أزمة الغذاء العالمي، هي أزمة تمدن أساساً وبالتالي أزمة توازن عمراني، وتظل المدينة كظاهرة متفاقمة أحد أهم أوجه الأزمة المنبثقة من الخلل في التوازن المكاني والسكاني، ولابد للمخططين أن يضعوا حداً لتفاقم النمو المديني أولاً ثم دعم الحياة التقليدية الريفية في سياق برامج تخطيط إقليمي ونقل الخدمات الضرورية والترفيهية إلى الريف والتجمعات الحضرية الزراعية الصغيرة.
إذاً الاستمرار بتمدين الريف وإنقاص طاقاته المعطل نصفها الآن على الأقل، هو استمرار بتلاشي دوره كمنتج مكتف ذاتياً والتحول إلى الاستيراد ثم إلى مدن جائعة.
موقع الخبير السوري