لا بدّ من إعلان قيامة الكلمة
بين الأمس واليوم تزداد الفجوة اتساعاً، والحضور غياباً، لنستفيق على واقع أبعد ما يكون عمّا يشبهنا ويشبه واقعنا وشخصيتنا وهويتنا، الوجه الأصيل المتوهج فينا، الذي لطالما أعطى وأبدع وصدّر الفكر والإبداع لكل أصقاع الدنيا، وإن كانت هناك أصوات تتعالى لتنادي بالكف عن العيش على أمجاد الماضي، فهذا حقّ لها ولنا، لا بدّ من الاعتراف به..
نعم، نحن بحاجة لصنع أمجادنا الخاصة بنا، أن نشعر بالانتماء للواقع الذي نعيشه بكل تفاصيله، إبداع يحاكي أحوالنا وأحلامنا ويجسّد معاناتنا وآلامنا، ولكنْ، أين نحن من ذلك وسط كلّ هذا التردي، فالحضور الإبداعي شبه ميت، وإن حاول النجاة ببعض النتاجات الفكرية والأدبية وحتى الفنية، إلا أنه غائب عن المشهد المجتمعي، والهوّة تزداد اتساعاً بين المبدع والمتلقي، وبات من الجليّ أننا وصلنا إلى مرحلة لا بد فيها من دق ناقوس خطر الإفلاس، وأن هناك واقعاً مأزوماً علينا تداركه، فما من فكر ننتمي له، وما من أدب يرسخ في الذاكرة، وما من حضارة تُورّث للأجيال، لنخون، من حيث لا ندري، مسيرة من سبقنا، ومن سيأتي بعدنا..
لعلّ من المجدي أن نتساءل، أين نحن اليوم من مسيرة كانت حافلة بكل ما يثري ويغني أي ثقافة وأي حضارة وأي أمة،وما هي رسالتنا أمام الموروث الفكري الذي تناوب أجدادنا على غرسه فينا وعملوا من خلاله على تصدير العلوم والمعارف إلى العالم لنصل لمرحلة باتت فيه عواصمنا مركز إشعاع علمي وثقافي للعالم كله، أين نحن من أوغاريت الأبجدية الأولى في العالم ، وما هي مسؤولياتنا تجاه كنوز ابن رشد وابن البيطار وابن خلدون، وما هو حالنا أمام إبداعات امرؤ القيس والمتنبي ونزار قباني، وما هو دورنا، الحقيقي والفاعل، الآني والمرحلي، أمام هؤلاء وغيرهم من مبدعين قدموا للبشرية ما بقي خالداً خلود الزمن، أين القيمة الفكرية لعلمنا وعملنا وأدبنا، أم أنها مرحلة الركود الذي سيطول أمده؟!..
منذ لحظة تأليفها وإلى الآن، امتلكت كتب التوحيدي والجاحظ وابن قتيبة وأبو الفرج الأصفهاني والمعري، بغناها وقابليّتها للتّجدد، القدرة أن تخلق حضارة أدبية بأكملها لكل مكان وزمان، فمؤلّفوها ممّن تصدّوا للتأليف والتدوين والتأريخ استطاعوا أن يمنحوا الأدب هويته في عصرهم وفي كل عصر، هذه المؤلفات لوحدها كفيلة بإعادة إحياء الأدب، فما تحتويه من إبداع وحسن تأليف ونظم يتجاوز الزمن الذي أبدعت فيه، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على الاهتمام الكبير الذي كان يولى للتأليف والتدوين في ذلك الوقت، والشغف النبيل بإبداع الواقع وترك الرسالة والأثر، الحال نفسه ينطبق على الشعر، فالشعراء تمكّنوا على مرّ العصور أن يؤلّفوا ديوان العرب بشعرهم، ليس بدءاً من امرؤ القيس والنابغة والمتنبي، وليس انتهاء بشعراء العصر القريب من الجواهري ونزار قباني ومحمود درويش، وغيرهم، ممّن أعطوا القصيدة ملامحها، كلّ بزمنه وعصره فكانت تشكل نبض معاناة وحياة، ونبراس أمل، وقضية انتماء ووطن..
هذا الإبداع الثري نفسه يضعنا وجهاً لوجه أمام ما نعانيه من فقر في مختلف فنون الأدب، ويفتح الباب واسعاً حول أسباب هذا الفقر، فإما أننا نعاني فقد الإبداع، ونحن في بلاد الإبداع، أو أن ما ينتجه المفكر هو بعيد عن معاناة الناس وواقعهم، أو أن المتلقي فقد ثقته بمبدعيه وبأن هناك من هو قادر على أن يجسّد واقعه بصدق وأمانة، أو أنّها أزمة غياب أشكال الدعم الرافد للإبداع، بل هي كل هذه الأسباب التي تحتاج لقراءة مختلفة ومعمقة تبحث في أسباب الداء وسبل الخلاص وفق تخطيط حقيقي يعتمد التفعيل الممنهج في محاولة جادة لترميم البناء وإعلان قيامة الكلمة..
ولتكون الصورة أكثر إنصافاً، وفي محاولة للبحث عن ركن مضيء، لا بد من الإشارة إلى الحضور الذي خلقته الرواية في عالم السرد والتأليف، كونها استطاعت النجاة من ثوب الرداءة، حيث تمكّنت الرواية اليوم من أن تشكّل ديوان العرب الجديد، واتخذت لنفسها مساحتها الخاصة بها، ورغم تأخرها عالمياً، لأسباب عدة، إلا أنها أثبتت بما أنجزته خلال هذا العصر مقدرة كبيرة تفوقت خلالها على بقية فنون الأدب، ولعل توجه الشباب لها تأليفاً واطّلاعاً هو دليل واضح على تميزها، ومع ذلك لا يمكن للرواية وحدها أن تنهض بمسؤولية أدب عصر كامل ولا تستطيع أن تحمل على عاتقها مهمة بناء عوالم تحتاج فضاءات كبيرة من الخلق والإبداع واللون.
الأمر أنّ الفراغ أحاط بنا من كل زاوية وركن، في الوقت الذي نحن فيه بأمس الحاجة إلى ما يثري حياتنا أمام هول ما يحيط بنا، وما نمرّ به من أزمات، بحاجة إلى كلمة تبني إنساناً، وإلى إبداع نبيل يرقى بالمجتمع، وإلى فكر يسمو وينهض بنا من القاع، هي دعوة لنهضة فكرية تعيد الألق وتحيي الروح وتجدد الانتماء، وتمسح التعب عن ذلك الوجه الجميل المتوهج فينا على الدوام، رغم شوائب الزمن وغبار الأيام.
هديل فيزو