أسرار ما تحت الأرض التي أبقت الاقتصاد السوري حيّاً..جرعات الدواء المرّ شافية غالباً
خاصّ – الخبير السوري:
في حالات متعددة كان الرأي الطبّي بخصوص بعض جرحى الحرب، أن تبقى الرصاصة مستقرة في جسم المصاب، بدلاً من استئصالها لأن تبعات انتزاعها أكثر من مخاطر انتزاعها..هذا أمر واقع لأن المداخلات الجراحية عندما تكون عميقة تبقى غير محسوبة النتائج، ريثما ينجلي أمر ما أو تظهر معطيات جديدة.
وقد استعرنا هذا المثال لواقعيته من أجل مقاربة سهلة في حديثنا عن اقتصاد الظل، أو الاقتصاد غير المنظّم الذي بات صاحب المساحة الأوسع على المستوى الأفقي في بنية الاقتصاد السوري، إنتاجياً وتجارياً وكذلك خدمياً.
هي حقيقة لا نملك الهروب منها مطلقاً، على الرغم من أنها ليست بتلك التهمة الغليظة، وإنما الحالة المثلى على صعيد أدبيات الدولة أن يكون كامل الاقتصاد منظّماً، بما أن كل ما هو غير ذلك يبدو خارجاً على القانون.
خارج التوقعات
لكن دعونا نعترف بـ ” الحقيقة المرّة” وهي أن اقتصاد الظلّ كان حاملاً أو جزءاً هاماً من حوامل الصمود الاقتصادي لبلدنا، على مرّ سنوات الحرب والأزمة، بل الأهم كان هو اللغز الذي حيّر القائمون على بنك الاستهداف الاقتصادي الممنهج لسورية في الخارج، بعد أن كانت كل المنشآت الاقتصادية الحيوية في القطاعين العام والخاص، هدفاً مباشراً لآلة التخريب والتقويض التي قامت بها الأذرع الإرهابية، التي دمّرت ونهبت وسرقت..إذ يبدو أن ” داتا” الاستهداف لم تهتدي إلى منشآت القطاع غير المنظّم ” الظل” مجهولة العنوان، والتي كانت مطارح إنتاج حمولة مئات الشاحنات السورية التي تغادر محملة بالسلع والمنتجات المختلفة، إلى الأردن ومنها إلى بلدان متعددة..ثم إلى العراق الذي كان يعتمد اعتماداً شبه كلّي على المنتج الاستهلاكي السوري.
ونذكر حينها كان القرار الخانق للاقتصاد السوري، بإغلاق كافة المعابر بين سورية والدول المجاورة..هنا فقط كانت الضربة القاصمة التي قللت من فعالية اقتصاد الظل في تخفيف ارتدادات الحرب وآثارها على البلاد.
لكن على أية حال..لا بدّ من التوطئة المدروسة و ” المحوكمة” لإخراج هذا الاقتصاد من مخابئه، ليس بشكل بوليسي..أي لتكليفه بالضرائب والرسوم، بل لدعمه وإدراجه في سياق الخطط التنموية التي يجب أن تكون مساحة الرؤية فيها كاملة متكاملة تماماً.
ظلّ بلا حدود
عموماً..مازالت التقارير المحلية حتى الآن عاجزة عن إعطاء رقم حقيقي عن حجم اقتصاد الظل في سورية، ولا تزال الإحصائيات تراوح في مكانها عند عتبة الـ 40% ، فيما تذهب تقارير أخرى صادرة عن اقتصاديين وباحثين أبعد من 60%، أما الوزارات المعنية بذلك النوع من الاقتصاد، مازالت تبرر غياب وجود إحصائية دقيقة إلى ظروف الأزمة، وانتشار الأنشطة الاقتصادية على اختلافها، ابتداء من البسطات إلى ورش الخياطة وإصلاح الأحذية، ومروراً بمهنة الحلاقة، وبيع الألبسة المستعملة، وغيرها من الأعمال التي امتهنها المواطنون في ظل عدم توفر فرص العمل، وارتفاع نسبة البطالة، ونزوح الكثيرين جراء الإرهاب، وخسارتهم لوظائفهم، أما تنظيم “المخفي”، فهو حديث آخر، فالبعض يرى تنظيمه ضرباً من ضروب المستحيل في الوقت الراهن، ولا يوجد مبرر لتنظيمه خوفاً من إنهاء عمر بعض المهن، وبالتالي بقاء أصحابها دون عمل، في حين يرى اختصاصيون ضرورة إلزام تنظيمه بغية تعميم الفائدة المبتغاة منه على المجتمع كافة.
معظم آراء الخبراء.. ترى أن تنظيم المهن والأعمال في الوقت الراهن قد يتسبب في “قطع رزق” الكثير من الناس الذين لجؤوا للمناطق العشوائية أو البعيدة عن عين المراقب بحثاً عن قوت يومهم، وبما أن ظروف البلد، كما يراها البعض، استثنائية، ودفعت بمعظم المواطنين لهجر وظائفهم وبيوتهم، وحري بالدولة – بحسب البعض- إشاحة النظر عن تنظيمه في الوقت الراهن.
و المعنيون في بعض الوزارات، يرون أن الجري وراء تنظيم الأعمال الصغيرة قد يؤدي إلى زوالها والقضاء عليها، وأي عمل قانوني لا بد أن يستمر بغض النظر عن تنظيمه وتسجيله في سجل عقاري، واعتبر بعضهم أنه من الصعب إيجاد تعريف حقيقي لاقتصاد الظل، فهو اقتصاد أبيض وأسود ومخفي، وهو مرتبط بكل الوزارات والمنشآت الحكومية.
وفي الوسط التجاري ذات الرأي، لكن بصيغة أكثر جرأةً.. ففي أروقة بعض الغرف أن اقتصاد الظل جاء لدعم السوق، وهو أساس الاقتصاد، ومن الواجب عدم النظر إليه، وكأنه مخالف للقانون.
و من المهمّ تهيئة بيئة قانونية مناسبة لاحتضانه بعيداً عن النظرة السلبية، لأن كل تاجر كبير بدأ بورشة صغيرة، ووجود اقتصاد خفي في الوقت الراهن يقي المجتمع من أعمال غير محببة يبحث أصحابها عن قوت يومهم بغض النظر عن الوسيلة.
سيء الصيت والسمعة
أما الرأي الأكاديمي فكان مباشراً وأكثر جرأة، فيختصر أحد الخبراء تعريف اقتصاد الظل، بأنه مجمل الأنشطة التي لا تتم تحت مظلة القانون وشفافيته، وينقسم إلى قسمين: الأول يطلق عليه اقتصاد الجريمة أو الاقتصاد الأسود (بيع سلع محرمة- إنشاء شركات وهمية- سرقة الآثار- المتاجرة بالبشر … الخ)، والثاني الاقتصاد غير الرسمي، وذلك عندما يكون التعامل به ممنوعاً، واستخدام السلعة مسموحاً (السوق السوداء لبيع بعض السلع- دكاكين وورش غير مسجلة- دروس خصوصية- عمال الأجرة …. إلخ)، مضيفاً أن الاقتصاد الخفي الذي يشكّل 40 إلى 80% من نسبة الدخل القومي لا يمكن إعطاؤه تعريفاً محدداً، فهو من جهة مجموعة أنشطة اقتصادية تشبه تماماً الاقتصاد النظامي بكل مكوناته، ويجري بعيداً عن التوثيق، وهو من جهة أخرى اقتصاد متنوع الأشكال والغايات يعمل بمبدأ السرية، ومع اتسامه بالبساطة والأخلاق، توجد فيه كل أنواع الفساد، وهو ليس حكراً على الدول النامية، ويزداد عند وجود عجز بالنمو الاقتصادي، وفي توفير فرص العمل، وهو من عوامل ضعف الخدمة والحماية الاجتماعية، ويتطور عكس الاقتصاد النظامي، وطالب الخبير بتعديل القوانين بما يخدم النمو الاقتصادي، وإيجاد سياسات اقتصادية حقيقية بعيدة عن التشويش الذي يؤدي لتشوه اقتصادي.
مخرج نجاة
وفي الوقت ذاته يرى الخبير.. أن العاملين في هذا القطاع يستفيدون من كل المزايا المقدمة للقطاع العام: (مياه- كهرباء.. إلخ)، ولا يساهمون نهائياً في الضرائب، كما أن زيادة حجم هذا الاقتصاد تؤدي إلى زيادة حجم الإنفاق العام، وبالتالي زيادة الموازنات، ووجود اقتصاد الظل يؤدي إلى عدم صحة البيانات والمعلومات اللازمة عند إعداد الخطط السنوية مثل: معدل البطالة والتضخم، ومعدل الإعالة، وكلما كانت هذه المعلومات صحيحة تكون القرارات صحيحة وواقعية، ولهذا الاقتصاد تأثير سلبي في المجال الصناعي والتجاري، وذلك من خلال قدرته على تأمين السلع بأسعار أقل من أسعار السلع النظامية، ورغم كل هذه السلبيات، يرى الباحث الاقتصادي أن لاقتصاد الظل إيجابيات، فهو يعمل على الحد من مشكلة البطالة، ويعمل على تأمين الاكتفاء الذاتي في بعض المواد والاحتياجات، كما يؤدي إلى زيادة الدخل للأفراد، وخاصة في ظل انخفاض مستويات الدخل بشكل عام.
تجارب
في وقت مضى كانت هناك مشاريع لإحصاء حجم اقتصاد الظل من قبل وزارة الصناعة بشكل دقيق، إلا أن عدداً من العقبات وقفت في وجه الإحصاءات كشمول هذا الاقتصاد لمجمل أوجه النشاط غير المسجلة لدى الدولة، انطلاقاً من البسطات في الشوارع، وصولاً إلى المشاريع الصغيرة، والمتوسطة، والشركات العائلية، وتهرب أصحاب هذه الأعمال من الإجابة عن أسئلة الإحصاءات، ليبقى الاقتصاد المخفي حتى الآن إحدى القضايا المعقدة التي تجابه الحكومة.
فرصة
الحقيقة أنّ معظم منشآت – بل ورش – اقتصاد الظل هي من النوع الصغير أو متناهي الصغر..ونحن نبحث حالياً عن وسائل ناجعة لإنعاش هذا النوع من المشروعات..
لذا نظن أنه يكفينا حالياً أن نوفّق في تسجيل “ورش الظل” وترخيصها ومن ثم دعمها، ليكون لدينا في ” دفاتر الإنجاز” خلاصات يمكن أن نتحدث عنها بصوت عالٍ عندما نتحدث عن ارتسامات المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر في بلدنا، بدلاً من الإحراج الذي نتعرض له دوماً، عندما لا نقوى على تبني أي سرد حقيقي يحكي عن فعل على الأرض بما يخص المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر.