المناذرة.. كيف ترعرع الشعر في مملكتهم
الحيرة مدينة التاريخ والحضارة 514م، مدينة كانت على ثلاثة أميال من الكوفة في العراق، وعلى موضع يُقال له النجف، وكانت مسكن ملوك العرب في الجاهلية من زمن (نصر) ثم من (لخم النعمان بن المنذر) وآبائه، وهي كثيرة المياه والأنهار، وكان موقعها من أطيب البلاد، وأرقّه هواء وأخفه ماء، وأعذبه تربة، وأصفاه جواً، وتكثر فيها حقول القمح والنخيل وتقطعها القنوات، وكان فيها منازل الـ(بقيلة) وغيرهم، وهي مدينة تغفو على نهر الفرات وحولها تنتشر منازل ومنابر الشعراء والمكتبات التي تضم الآلاف من كتب العلماء والمحدثين وحولها تسرك قصور ملوك (التنوخيين) و(اللخميين) و(العياديين) و(الأحلاف) العرب، كقصيري (الخورنق والسدير).
كيف لا يشرق نور العلم في هذه المدينة التاريخية وكل مروجاته فيها؟ فإنها ورثت العلم والمعرفة من بابل وآشور وسومر وماري وأكد وأور، ومعظم سكانها عرب، والعرب ذوو القرائح الوقادة، كانوا يتبارون في أيام عزّها بأشعارهم ومعلّقاتهم ومجمهراتهم، وينشدون قصائدهم في سوق عكاظ، وللحيرة منزلة تاريخية في آداب اللغة العربية، سواء أكان بالشعراء الذين أنجبتهم أو الشعراء الذين قصدوا ملوكها المناذرة للمدح والتقريظ ووصف البلاد، أو بالحوادث (الوقائع) التي تمت في أرضها وقبائلها، فألهمت الشعراء للمعلقات نفسها، ولتاريخ الخطابة العربية علاقة بملوك المناذرة.
ومن شعراء الحيرة (عدي بن زيد العبادي+ 587م) وهو الذي ربى الملك النعمان بن المنذر، وتزوّج هند بنت النعمان، وقتله بعد ذلك الملك النعمان، وله منزلة في تاريخ الحيرة السياسي، وقد نظم القصائد الحسان، وأشهرها داليّته، وهي من مجمهرات العرب ضمّنها (أجود الحكم) ومطلعها:
أتعرف رسم الدار من أم معبدٍ نعم ورماك الشوق قبل التجلّد
ولعدي بن زيد ولدان (زيد وعمرو) وكان كلاهما شاعراً، واستعار كسرى زيداً عنده، وأما عمرو فقُتل يوم معركة (ذي قار)، ومنهم الشاعر (عدي بن مرينا)، معاصر عدي بن زيد، وكان ابن مرينا يحسد عدي بن زيد على تقدمه عند النعمان بن المنذر فكتب إليه:
ألا بلغ عدياً عن عديِّ فلا تجزع وإن رثّت قواكا
هياكلنا تبرّ بغير فقرٍ لتحمد أو يتم به غناكا
ندمت ندامة الكسعي لما رأت عيناك ما صنعت يداكا
وللشاعر العربي (امرؤ القيس) (565م) صلات سياسية بالحيرة، وقربى بملوكها، فإن جدّه الأعلى هو (حجر آكل المرار) وملك كندة، حكم بكراً فانتزع من (اللخميين) ما كان بأيديهم من أرض بكر بن وائل، وملك الحارث بن عمرو بن حجر الحيرة في عهد كسرى قباذ، وطرد من عرشها المنذر، إلى أن حكم كسرى أنوشروان، فانتزع الملك من الحارث، وأعاده إلى المنذر صاحب المشروع، فانهزم الحارث ولاحقه المنذر، وبقي يطارده ويطارد فلوله ورهطه حتى ظفر بقوم منهم، فأمر بقتلهم فقتلوا بجفر الأملاك، في ديار بني مرينا العياديين، وفيهم يقول امرؤ القيس:
ألا عين بكّي لي شنينا وبكّي لي الملوك الذاهبينا
ملوكاً من بني حجر بن عمرو يساقون العشية يقتلونا
تظل الطير عاكفة عليهم وتنتزع الحواجب والعيونا
أما الشاعر الحيري (المنخل اليشكري) المتوفى سنة 975م فقد كان ينادم الملك النعمان بن المنذر، مع الشاعر النابغة الذبياني وينشده القصائد، وكان النعمان يكرمه ويقربه إليه، غير أنه كان يؤثر شعر النابغة على شعره، فسعى المنخل وأوغر صدر النعمان عليه حتى هم بقتله فهرب النابعة، وخلا المنخل بمجالسته، إلى أن ارتاب النعمان منه وقتله، وهو القائل:
فإن انتشيت فإنني رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير
وجاء الحيرة (حاتم الطائي) الجواد الشهير والشاعر الكبير المتوفى سنة 650م في زمن الملك الشاعر النعمان بن المنذر وقضيته مع (ماية بنت عفزر) وله قصيدة مطلعها:
حننت إلى الأجبال أجبال طيّ وحنت قلوصي أن رأت سوط أحمرا
ومنها بيت ذكر فيه تردده على مواضع من ديار المناذرة:
وما زلت أسعى بين خُصّي وداره ولحيان حتى خفتُ أن اتنصرا
وهذا عمرو بن كلثوم شاعر الحيرة المتوفى سنة 600م نظم معلقته الحماسية الفخرية غضباً لأمه وقبيلته من عمرو بن هند صاحب الحيرة، وكان عمرو هذا معجباً بنفسه فقال يوماً للندماء: (هل تعلمون أحداً من العرب تأنف أمه من خدمة أمي؟) ، فقالوا: نعم، أم عمرو بن كلثوم، قال: ولِمَ؟، قالوا: لأن أباها المهلهل بن ربيعة، وعمها كليب بن وائل أعز العرب، وبعلها كلثوم بن مالك أفرس العرب، وابنها عمرو وهو سيد قومه.
يقول عمرو بن كلثوم في معلقته:
ألا هبّي بصحنك فاصبحينا ولا تبقي خمور الأندرينا
أبا هند فلا تعجل علينا وأنظرنا نخبرك اليقينا
بأي مشيئة عمرو بن هند تضيع بنا الوشاة وتزدرينا
ملأنا البر حتى ضاق عنا وظهر البحر نملؤه سفينا
لنا الدنيا ومن أضحى عليها ونبطش حين نبطش قادرينا
كما أن هناك شعراء حيريين كثيرين مثل عمرو بن قميئة وأبو داود الأبادي وجرير بن عبد المسيح الضيعي، وحنظلة الطائي، والأسود بن يعفر، وجعدة بن قيس، وحسان بن ثابت شاعر الرسول الذي أدرك مملكة المناذرة وحلّ ضيفاً على النعمان بن المنذر في الحيرة، وكذلك من الشعراء يزيد بن عبد المدان، وعامر بن طفيل.
وملوك الحيرة هم بالأصل شعراء كبار ومحدثون أجلاء وخطباء، واشتهر بعضهم بإلقاء المحاضرات في الأدب العربي وعلوم النحو، فالملك الحيري (الأسود بن المنذر بن ماء السماء) كان شاعراً وخطيباً أما النعمان بن المنذر فهو الآخر كان يجلس بين الشعراء، شاعراً ومستمعاً للشعراء، وله في كل شهر حضور يجمعه مع الأدباء والشعراء في قصر الخورنق يتبارى فيه شعراء الحيرة بقصائدهم ولكل شاعر غرض خاص في شعره، ومن الشعراء زهير بن أبي سلمى والأسود بن يعفر وأشعر الرقبان الأسدي، وأمضى بن جناب، وأفنون وأوس بن حجر، وأوس بن زيد العبدي، وإياس بن قبيصة وباعث بن جهم، وجابر بن حني، والحارث بن حلزة ، والحارث بن ظالم، والحصين بن الحمام، ودجاجة بن عبد القيسي، وسويد بن الحذاق، وشريح بن الحارث، وضمرة بن ضمرة، وعارف بن أجا، وعاصم بن عمرو، وعامر بن جوين، وعبد العزى بن امرئ القيس، وعبد القيس بن عفاف، وعبيد بن الأبرهى السعدي، وعبيد بن أمية، وعبيدة بن ربيعة، وعبيدة بن همام، وعدي بن رغلاء، وعصيمة بن خالد، وعلياء بن أرقم، وعلقمة الفحل، وعمرو بن ثعلبة، وعمرو بن عبد المسيح، وعمرو اليشكري، وعمرو بن ملقط، وعمرو بن هند الملك، ومالك بن نويرة وغيرهم من شعراء الحيرة.
وقصارى القول: إن الحيرة كانت في عهد عزها وإبان سلطانها مركزاً للعلوم والمعارف وملتقى كبار الأدباء ومشاهير الشعراء، وكان ملوكها منشطين للحركة الأدبية العربية والحضارة ولاسيما في القرن السادس للميلاد، ولا نخطئ إن ذهبنا إلى أن الحفر في أطلالها يوقفنا على حقائق تاريخية يجهلها العلماء أو اختلفوا في تعليلها سواءً كان في التاريخ أو الآداب أو في فنون الريازة والنقش والتزويق، ولنا في قول العالم الأثري (تليوث رايس) مثال: «إن مشكلات كثيرة نجدّ اليوم في طلبها ولا نتوصل إليها، ولكن حلولها تنتظرنا في بطن أرض (الحيرة) وبين ثنايا آثارها المدفونة في العراق».
د.رحيم هادي الشمخي