ما بين الشارع .. والنظام الرسمي (العربي)
د. عبد اللطيف عمران
لا شك أننا أمام جيل جديد علينا أن نكون حذرين في مخاطبته، بل إن بعضنا لا يعرف كيف يخاطبه، وكيف يجيب بشكل مقنع وجاذب عن أسئلته وهواجسه. هذا الجيل لا يعرف – خاصة بعد أحداث عشر السنوات الأخيرة – إلا النذر اليسير عن (المشروع القومي العربي)، ولا عن نقيضه (المشروع الصهيوني) بعد الجهود الحثيثة لنقل البندقية من صوب تل أبيب إلى طهران، وهو لا يعرف شيئاً عن الاتحاد السوفييتي مثلاً، ولا عن نضال الشعب الفيتنامي ضد العدوان والاحتلال الأمريكي – وهناك من يقول إن الشباب الفيتنامي الطالع إلى الحياة الجديدة بدأ يتناسى جرائم الأمريكان بحقه أيام الآباء لا الأجداد.
حقاً إننا نقف بحيرة أمام جيل جديد ووجهاً لوجه، جيل تسهم في تكوينه السوشال ميديا أكثر مما تسهم مراجع ومصادر الأصالة والهوية والانتماء، جيل يقع، وقد وقع بسهولة، ضحية قنوات التضليل الإعلامي وسفك الدم الوطني والعربي، ولم تستطع أن تنقذه من هذا الافتراس الأحزاب والمنظمات والنقابات والاتحادات الوطنية العربية الناجمة عن حركة التحرر الوطني العربية ضد الاستعمارين العثماني والغربي.
ولذلك علينا أن نوضّح لهذا الجيل – من بعض كثير مما يجب أن نوضحه – ما المقصود بمفهوم (النظام الرسمي (العربي)، ومفهوم (الشارع العربي أو رديفه الرأي العام العربي)، لأنه عليك أن تجتهد كثيراً – بسبب أفاعيل بعض النظام الرسمي العربي – لتقنع أجيال الشارع العربي الطالعة إلى الحياة الجديدة والقادمة بأن التنشئة الوطنية – مثلاً – لا تنفصل عن التنشئة العروبية، بل يعزز كل منهما الآخر، وأنت ستجد لا شك لبساً في أذهانهم إذا قلت: التنشئة القومية العربية، بدلاً عن التنشئة العروبية، لأنهم سيسألونك فوراً: أين هي القومية العربية اليوم؟ وستقول لهم مضطراً: هي في الكتب، كتب القرن الماضي، هي ليست في الواقع…؟!
إن النظام الرسمي العربي، ليس هو فقط السلطات الحاكمة بأنواعها العديدة بل هو المنظمات والاتحادات والنقابات والجامعة العربية أيضاُ ؟!، هذا النظام المترنّح بعد فشل – وسقوط إن شئت –مؤسسات (العمل العربي المشترك)، هذا السقوط الذي يجب ألا يؤدي إلى سقوط فكرة، الوحدة العربية باعتبارها لا تزال الغاية المنشودة للشارع العربي رغم هذا التضليل الذي قريباً ما سينكشف ويفشل رهانه على الأعداء الطامعين والمحتلين وعلى ذيولهم.
من جهة ثانية فإن التعميم في إطلاق الأحكام على هذا النظام لا يجوز ولا يصح، لأنه ليس واحداً، ولا متجانساً، كما يقول المفكر ورئيس وزراء (لبنان الأسبق) – أو بالأحرى رئيس الوزراء الأسبق في لبنان د.سليم الحص. وإذا كان هذا النظام اليوم هشّاً أمام النظام الإقليمي العربي، وأمام القوى الإقليمية والدولية، فيجب على الوطنيين والعروبيين توضيح مخاطر هذه الهشاشة على الأمن القومي العربي إذ علينا أن نفهم الشارع العربي، ولا سيما الآن، أن الأمن الوطني لأي قطر عربي لن يتحقق بمعزل عن الأمن القومي العربي، لأن أزمات النظام الرسمي انعكست سلبياً عن الأمن الوطني والقومي، وعلى الشارع العربي على السواء، وتحديدا على قضية فلسطين المركزية.
أما الشارع العربي فهو ليس فقط جماهير العمال والفلاحين، بل هو أيضاً المثقفون والرياضيون والفنانون والأدباء والكتّاب. هذا الشارع الذي كان يصنّف في القرن الماضي ضمن تيارات رئيسية أربعة: القومي والليبرالي والإسلامي واليساري، وصار اليوم عصيّاً على التصنيف بسبب سرعة تأثره وضعف منعته أمام التكنولوجيا الرقمية وثورة المعرفة والاتصالات والفضائيات ومحركات البحث – وخاصة بعد الاستهداف الكبير للتيارين الواسعين: القومي والإسلامي، واختلاق تناقض زائف وكبير بينهما أدى إلى احتراب وضعف وخسارة كبرى، ولا سيما إذا تأكدنا من إسهام رجال الدين الإسلامي والمسيحي في حركة النهضة والتحرر الوطنية والعربية، ولاحظنا كيف أن الدساتير الوطنية لعدد من الأقطار العربية نصّت بطواعية على أن الإسلام هو المصدر الأساسي للتشريع فيها.
في ظل هذا التناقض والاحتراب والتراجع أيضاً، لم يتراجع المشروع الصهيوني لا في الجغرافيا (توسّع الاحتلال)، ولا في التاريخ (طفو حضور الأساطير المؤسسة للكيان وتطورها) بل تقدم سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وإذا كان بعض النظام الرسمي العربي يغض النظر عن هذا التقدم المؤذي، فإن الشارع العربي هو الذي سيحصد النتائج المريرة حصاداً سيجعله يدرك بالضرورة مآل اتفاقات السلام السابقة على شعوب وحكومات الأقطار الثلاثة التي وقعتها، ولن يكون حال الموقعين الجدد والقادمين بأفضل على الشعب والدولة، بل بأسوأ لأن المشروع الصهيوني سيزداد غطرسة وهمجية مع هكذا سلام.
إن الشارع العربي يلاحظ أن (السلام مقابل السلام) هو تطبيع مع (طبيعة) المشروع الصهيوني بصيغته العنصرية والتوسعية والإبادية وليس على الأرض والبشر فقط، بل على الفكر والهوية والوعي … وهذا ما أفضى إلى أنواع أخرى من الاحتلال غير الصهيوني نشهدها اليوم كالاحتلال التركي والاحتلال الأمريكي، واحتلال الإرهاب، والطامحين إلى الفدرلة.
هذا الشارع ينظر إلى مخاطر مآزق هذا النظام، ويعرف أن هذا اللون من (السلام) والتطبيع سيزيد المشاكل والمآزق، وهو يتداول بخوف في وسائل التواصل مثلاً التصريحات المنسوبة إلى آن باترسون السفيرة الأمريكية السابقة في القاهرة حول (الحقوق الواسعة؟!) والتي يجب أن يستحصدها الصهاينة على حساب العرب وينتزعونها بقهر وإذلال، وفي الوقت نفسه، وبالمقابل، يتداول هذا الشارع – أيضاً – بتفاؤل مثلاً ما أعلنه المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي المعارض والمندد على الدوام بمخاطر التحالف الصهيوأمريكي، ولا سيما قوله أثناء زيارته قطاع غزة المحاصر: (إن (إسرائيل) تتبع سياسة ستزيد المخاطر المحدقة بها إلى حد كبير، لأنها سياسة تنتهج التوسع على حساب الأمن، وتقترن بانحطاطها الأخلاقي ما سيؤدي إلى عزلتها ونزع الشرعية عنها، وفي المستقبل إلى دمارها، وهذا أمر لم يعد مستحيلاً). وطبعاً هذا ما يزعج بعض أزلام السلام والتطبيع من النظام الرسمي، لأنهم – وياللسخرية – أفهم وأحرص من تشومسكي ؟!!!.
الشارع العربي لا ينكر، كما يتنكّر بعض النظام الرسمي، أن اعتبار العلاقات (طبيعية) مع كيان المشروع الصهيوني هو تجاهل لكون هذا الكيان كان ولا يزال عنصرياً توسّعياً، وسيبقى لأنه يصعب عليه الاعتراف بحقوق كيان آخر في وطنه وأرضه، لإنه يرفض باستمرار الاعتراف بإنسانية الآخر.
وهذا الشارع يجب أن يحصّن من التضليل والإجتزاء والتناقل بالإخراج والتزوير من تصديق أن عضواً في قيادة حزب البعث يمكن أن يضاءل من شأن الرهان على المقاومة، وأن يصرف النظر عنها نهجاً وثقافةً مادام كيان الاحتلال عاملاً على تحقيق المشروع الصهيوني
ومن الأهمية بمكان أن يمعن النظر كلّ من الشارع والنظام الرسمي العربي بكلمة السيد الرئيس بشار الأسد في 12/8/2020 أمام أعضاء مجلس الشعب، لما لها من أهمية تاريخية وواقعية في هذا السياق:
(هذه الحرب أثبتت صحة مواقفنا من القضايا الأساسية، فزادتها ثباتاً بدلاً من أن تغيّرها كما يأمل الأعداء، فـ (إسرائيل) عدو وهي أصل الإرهاب ومنشؤه، وستبقى قضية فلسطين القضية المركزية، وأبناؤها إخوتنا، وإذا كان هناك من نكر الجميل فليس بسبب انتمائه لفلسطين، وإنما بسبب عدم انتمائه إليها).