بعد التطبيع.. الدراما ومعارك الفكر
لم يعد مستغرباً أن يعلن بعض العرب التطبيع مع عدوهم، أمام هذا السجل الحافل بالخيبات، لكن المستغرب محاولة هذا البعض أن يصعّد في خطابه التطبيعي ليتعمد اختراق العمق وزعزعة أسس الفكر والتلاعب بها من خلال دسّ أفكار مشوّهة، وزرع غرس ثقافي مسموم يبتغون منه قتل الحقيقة وتزوير التاريخ، في ظل حملة فكرية ماكرة مخطط لها سلفاً، يستخدمون فيها كل الأدوات ويعملون خلالها على كل المستويات، فكرياً وثقافياً وإعلامياً، للوصول إلى غايتهم في إنتاج إنسان عربي لا هوية له ولا جذور قابل للانقياد وفقاً لمصالحهم وأهوائهم.
في زمن التطبيع، باتت الوسائل الإعلامية، والمرئية خاصة، تشكل خطراً كبيراً على المتلقي بما تنتهجه من سياسة مموليها، وبما تبثّه من فكر مشبوه قد لا يعيه المتابع مباشرة، كونه مبطناً بأسلوب جمالي يبتغي كسب المزاج الشعبي العربي والسيطرة عليه، ثم التأثير فيه وتوجيهه وفق سياساتهم، هذا الواقع الشاذ خلق توجّهات فكرية ومرئية لا تقل خطورة عن التطبيع نفسه..
وفق هذا التوجه الخطير ذاته، قامت القناة السعودية “mbc” مؤخراً بحذف مسلسلات تتناول القضية الفلسطينية وتُجسد معاناة الفلسطينيين ونضالهم ضد العدو المحتلّ، فحذفت مسلسل “التغريبة الفلسطينية”، من التطبيق التابع لها “شاهد”، المسلسل الذي استطاع أن يترك أثره العميق لدى كل فلسطيني وعربي، من خلال تقديمه أفضل معالجة درامية حقيقية ومنصفة للقضية الفلسطينية على الإطلاق عبر نص رائع للمؤلف وليد سيف ورؤية إبداعية للمخرج حاتم علي.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل قام التطبيق نفسه بتجميد تصوير مسلسل «الأمير الأحمر» بسبب تناوله سيرة المناضل الفلسطيني علي حسن سلامة، الذي اغتاله الموساد أمام منزله في بيروت، العمل الذي كتبه حسن سامي يوسف ويقوم بإخراجه سامر البرقاوي، تم إجهاضه في مهده، وبعد أن أعلن القائمون على المنصة السعودية أن المسلسل سيكون بمثابة انطلاقة “شاهد” الفعلي، اتفق القائمون على “mbc” ضمناً على إلغائه.
التوجه الدرامي الجديد مهّد لنفسه من خلال مسلسلين عربيين،عُرضا خلال شهر رمضان هما “أم هارون”، ومخرج 7″، في كلا المسلسلين طرح ماكر موجّه، إن كان عبر الصورة، أو عبر النص، من خلال رؤية العمل ككل، أو من خلال جملة عابرة، قصيرة لكنها تقول الكثير، وتترك أثرها في المتلقي، فالمقولات غير المباشرة التي يطرحها العملان أخطر بكثير مما تبدو، والغاية التي صنع من أجلها العملان لا يمكن أن تبرّأ، بل إنها تمهد لانطلاقة أعمال من النوع ذاته وتصبّ في الخانة نفسها، والغاية هي رسم خارطة درامية جديدة خبيثة لأعمال تقوم على خدمة التطبيع وتنحية القضية، عبر المقولات والرؤى التي تتضمنها هذه الأعمال، في محاولة لتفعيل عملية التحول الفكري لدى المتلقي، وما يتبع ذلك من تحوّل في مواقفه، ومن ثم مرحلة التغيير السلوكي.
الخطاب التطبيعي بمختلف أشكاله سيكون أكثر خطراً من أي وقت مضى، فالمعركة فكرية هذه المرة، والمخططات تستهدف الشخصية العربية بفكرها وقيمها وثوابتها ووطنيتها، والاستهداف موجه لاختراق العمق وهدم الأسس واقتلاع الجذور، ليكون التّعويل على الوعي هو خط الدفاع الأول الذي لا بد من التحصّن به لرد الخطر.
هديل فيزو