مسرح جبلة الأثري المفتقد للاهتمام.. أحد الشواهد على تاريخ وحضارة سورية
لم يبق على زوار مدينة جبلة ، تلك المدينة الساحلية التي تغفو على شاطئ صخري كأنه راحل إلى عمق التاريخ ، إلا أن يدخلوا بأحاسيسهم إلى عبق التاريخ عندما لن يستطيعوا أن يشيحوا بنظرهم عن ذلك البناء الدائري الأثري “مسرح جبلة الروماني” الذي استقبل فيما مضى من سنوات سبقت الحرب الإرهابية حفلات فنية من دول عربية وأوربية حيث كانت فعالياته الفنية والثقافية مرافقة لمهرجان بصرى الدولي، ويقع هذا المعلم الأثري الهام من الجهة الشمالية الشرقية من المدينة القديمة في جبلة وقد شيّد على أرض سهلية ويرجع تاريخ بناءه إلى القرن الثاني الميلادي مما يعني أنه ينتمي للعصر الروماني، وذكره عدد من المؤرخين والجغرافيين والرحالة العرب كالعماد الأصفهاني وابن الأثير وابن شداد الذين اعتبروه قلعة حربية بعد أن حولوه الروم البيزنطيين إلى قلعة للدفاع عن المدينة، وبقي كقلعة حتى الفترة الصليبية الأيوبية والمملوكية، وهذا الأمر يدل على بقايا التحصينات وأبنية ومرافق مختلفة ظهرت أثناء التنقيب الأثري التي قامت به المديرية العامة للآثار والمتاحف في العام 1950 وزاره عدد من الباحثين الأجانب منهم هني موندريل في العام 1967 وكان قد تم وضع أول مخطط للمسرح في العام 1745م من قبل ريشارد بوكوك وأرنست رونان في العام 1860م حيث وجده في حالة جيدة، وبعد ذلك بدأت تظهر على المسرح تغيرات بشهادة الباحث رونية دوسو الذي زاره في العام 1895م ليجده خراباً ربما بسبب الزلزل المتلاحقة التي تعرضت لها المنطقة إضافة ليد الإنسان التي تعدت على حجارته المشذبة لبناء البيوت وهذا الأمر ساعد على تشويهه.
واعتبر الدكتور مسعود بدوي رئيس دائرة آثار جبلة بأن هذا المسرح قد شيّد على أرض سهلية بركائز وقواعد ضخمة من الحجر الرملي، أما مدرجات الجمهور فقد بنيت بحجارة كلسية وشكله نصف دائري ويبلغ قطره 90 متراً ويتسع لحوالي 10 آلاف متفرج وهو مبني على أقواس وعقود مبنية من الحجر الرملي ويتألف من منصة التمثيل شمالاً وزين جدارها الأمامي بمحاريب مستطيلة ومستديرة، أما الصحن أو الحلبة فقطرها 21,5 متراً وتتألف مدرجات الجمهور من ثلاثة طوابق، السفلي منها 13 درجة والمتوسط 12 درجة والعلوي فلم يبق منه سوى أربع درجات وليبلغ العدد الكلي للدرجات 35 درجة لتنتهي الأخيرة منه برواق معمد مسقوف، وبين بدوي أن بناء هذا المسرح وهندسته من تنظيم درجاته وعقوده وأروقته وواجهاته الخارجية مع الأعمدة التزينية والتيجان والأدراج الشعاعية ومداخل قبو الملقنين يدل على مهارة هندسية ومعمارية تميزت بخصوصيات المسارح الرومانية في سورية ولذلك استحق قول أحد مرافقي بعثة أرنست رونان “أنه أجمل الآثار الرومانية على الساحل الفينيقي” .
ويبدو اليوم هذا المعلم الأثري بحالة مزرية بسبب توقف أعمال الترميم وعن ذلك يبين الدكتور بدوي بأن دائرة آثار جبلة قامت في العام 2019 بأعمال مختلفة أهمها، متابعة أعمال الكشف للعناصر المعمارية التابعة لبناء كتلة المسرح في الجهة الشمالية الغربية بهدف توضيح ماهية الرواق الرئيسي وارتباطه مع الممر المؤدي لصحن المسرح، كما تم ترميم وتدعيم الرواق الرئيسي المحفوظ في الجهة الشرقية والأقواس الحاملة لدرجات الجمهور شمالاً إلى الغرب وعلى الأخص الأجزاء الضعيفة في بناء كتلته وما تزال أعمال الدراسات الهندسية الترميمية للمسرح مستمرة لتتم المحافظة على هذا المعلم التاريخي والحضاري لمدينة جبلة العريقة .
وبعد كل ذلك .. لا بد من القول ، أن هذا المعلم الأثري يحتاج إلى أكثر من الترميم وإلى أكثر من التدعيم فما شاهدناه داخله يؤكد أن الإهمال هو العنوان الأبرز له فلم يبق مجرد حالة، لأن هذا الواقع إذا ما استمر فسوف يغيب أثره مع تآكل ما تبقى من المشهد الحضاري له وخاصة أن المعنيين في مجلس المدينة قد أصروا على تشويه المنظر الأثري الحضاري بإزالة المحال التجارية القديمة مما أزال المدينة القديمة حول هذا المعلم ليتم بناء ما يسمى “مول” مع ساحة كبيرة قضّت مضجع النفحة التاريخية للمسرح وخاصة أن أصحاب هذه المحال يأنون وجعاً بعد أن تحول حالهم إلى تجار صغار خسروا مهنهم التراثية وأجبروا بمزاولة مهن غير مهنهم التراثية ولا تنم عن النفحة التاريخية الأثرية ، لذا نتج عن هذا التشوه للمعلم التاريخي آثار السلبية نتجت عن إزالة المحال التجارية الأثرية وأضرت بحالة أصحابها المعيشية إضافة لإزالة أي أثر للمدينة القديمة التي تعطي الهوية التاريخية لهذا المعلم الحضاري .
تصوير وتحقيق : نزار جمول