إشكالية “المخرج المؤلف”.. بين إثبات الذات والاقتصار على الرؤية الواحدة
فرضت تجربة “المخرج المؤلف” حضورها بقوة في ساحة الدراما السورية مؤخراً، فبات المخرج ينحاز لعالمه ورؤيته الخاصة، ليحمل على عاتقه مهمة تأليف نصه الذي يريد أن يقوم بإخراجه، فيوجهه بوجهته ويرسم معالمه بألوانه، ويتحمل مسؤوليته تأليفاً وإخراجاً، وأيّاً كانت الرؤى النقدية لهذه التجربة، ومهما تباينت وجهات النظر حولها، إلا أنها استطاعت أن تثبت نفسها كنوع درامي خاص، له ما له، وعليه ما عليه..
إذا كان من حق المخرج أن يتجاوز النص المكتوب ويحلق خارج حدود حروفه ليحرك فيها الحياة ويبنيها برؤية إخراجية ويجسدها على الواقع بشخصيات حية، فهو يمتلك الحق أيضاً بخوض غمار الكتابة والغوص في جزئياتها للوصول للعمل الذي يرتئيه، تغريه في ذلك فكرة الخروج من عباءة المؤلف، لينأى بنفسه عن أمواج المد والجزر التي قد تنشأ بينه وبين الكاتب، وما يتبع عنها من حقوق الملكية الفكرية للمؤلف، والحدود التي ينبغي على المخرج الالتزام بها خلال تصرفه بالنص، وقد يكون شغف المخرج لخوض تجربة التأليف وإيمانه بالقدرة على الإنجاز هو الدافع، فيقوم بكتابة نصه الذي لم يأت إليه بعد ويحلم بإخراجه.
من جهة أخرى، ومما لا ريب فيه، أن تعدد الرؤى لأي عمل فني يكسبه أبعاداً جديدة ومختلفة، ويخرجه من دائرته الضيقة إلى عالم أكثر رحابة وغنى، لتتم إعادة بنائه من جديد وبأسلوب مختلف، فالمؤلف يبني عوالمه الدرامية وشخصياته وأحداث عمله على الورق وفقاً لرؤيته الذاتية التي ينتصر لها ويبقى مأسوراً بها حريصاً أن تُجسّد كما يراها، ثم يأتي المخرج ليجسّدها برؤيا أخرى مختلفة لكنّها مكمّلة بشكل أو بآخر لرؤية المؤلف، وهنا يتفق الطرفان ويختلفان، وكلّ منهما ينتصر لرؤيته، لكن في الحالتين يكون العمل هو المنتصر الأكبر لأنه استطاع أن يجمع بين العالمين ويوائم بين الرؤيتين.
البديهي أن للتأليف الدرامي خصوصيته التي تحتاج التخصص والخبرة، والقدرة الفائقة على خلق الشخصيات وبناء عوالمها وأبعادها وتقديمها بالشكل الذي يتناسب مع بيئتها وثقافتها ومحيطها، ما يحتاج فهماً معمقاً لطبيعة العلاقات الإنسانية والاجتماعية، إضافة للاهتمام بتفاصيلها مهما كانت صغيرة، بدءاً باللغة التي تتناسب مع الشخصية وانتهاء بالملابس والمحيط، بهدف خلق نص درامي فريد على صعيد المضمون والشكل يقدم المتعة والفائدة، هذا كله يؤكد أهمية التخصص وأهمية إيلاء النص الدرامي حقه من العناية والاهتمام، والمشكلة تتبدى حين يقوم مخرجون بكتابة نصوص أعمالهم دون أن يمتلكوا القدرة على استيفاء الشروط الدرامية الأساسية التي تجعل العمل الفني قيماً ومناسباً للمتلقي..
لعل ما يثير الأمر أن الدراما الأبرز خلال هذا العام هي التي اعتمدت تجربة المؤلف المخرج، وتجسّد ذلك في عملين دراميين استطاعا أن يحققا حضوراً جماهيرياً لافتاً، فمسلسل “شارع شيكاغو”، العمل الذي أثار جدلاً كبيراً، أتى بتجربة كتابية مختلفة ورؤية بصرية جديدة، استطاع خلالها محمد عبد العزيز صاحب الفكر الجريء والطرح الصادم أن يفرض إيقاعه المختلف على كل الصعد، متعمداً التصادم مع الذهنية الجمعية القائمة، ومنظومة القيم المجتمعية السائدة، تحت حجة التغيير، ورغم الانتقادات الكثيرة التي طالت التجربة سواء في بنية النص أم في الصورة البصرية، وأياً كان نوع التقييم لها، إلا أنها استطاعت أن تحقق لصاحبها حضوراً في الساحة الدرامية على صعيد التأليف والإخراج..
كما استطاع “مقابلة مع السيد آدم”، أن يحقق توازن المعادلة، من خلال قدرة مؤلف العمل ومخرجه فادي سليم على خلق عوالمه الكتابية الخاصة وتجسيدها برؤية إخراجية عبرت عما يريد الوصول إليه بنص متميز دخل عوالم الطب الشرعي والجريمة ببساطة وتمكّن، ومنحه أبعاده المرئية باحتراف، فكانت تجربة نوعية ارتقت إلى المستوى الفني للعمل الدرامي السوري، وقدمت رؤية فنية ملفتة من خلال النص والتقنيات والأدوات الإخراجية وانتقاء الشخصيات والأداء الاحترافي للممثلين.
إذا كان عالَم الإخراج يتطلّب الكثير من الدقة في اختيار الصورة الجمالية المقدَّمة للمشاهد، وأن يتفهّم المخرج أبعاد النص ويعطيه معناه الكامل وقيمته الحقيقية، فإن عالم التأليف يستوجب أيضاً التعمق في بناء الشخوص وخلق عوالمها وطباعها ورسم مساراتها وتوقّع حواراتها، وتوفير الشروط الدرامية الملائمة لها، وكما أنه ليس من السهل الجمع بين العالمين، وبقدر صعوبته ومشقته وأعباء تحقيق شروطه، إلا أن التجارب أثبتت أنه ليس مستحيلاً..
هديل فيزو