الروح السورية.. تزاوج الفن والطبيعة
من صميم كيانه في التاريخ والمكان، لكل شعب من الشعوب معين من الطاقة الروحية، من الخير ألا يشمله النسيان، فالإنسانية إنسان واحد، ولكن لابدّ أن تتنوع الأعضاء لتتم الصورة ويكتمل المعنى، والكل قادر على العطاء –وليس هناك عاجز- إذا انبثق من بؤرة ذلك المعين.
كان اختراع الكتابة في بلاد وادي الرافدين (سورية والعراق) علامة صنعت التاريخ، وستكون قراءة مغزى التاريخ، دليلاً لمعنى حياة أصحاب ذلك التاريخ علامة طريق ثانية، ولعصرنا أن يفخر بأنه أول من وضع هذه العلامة.. التاريخ كالطبيعة: دائماً يتطلب إعادة التفسير، ونحن نصنع التاريخ عندما تبرز روحه ومعناه، ويصنعنا التاريخ بأن يحدد لنا اتجاه سعينا في الحياة، وإذا كان التاريخ كعلم سؤالاً لم تتحقق الإجابة عنه بعد، فإن الفن كتاريخ حقيقة لا سبيل إلى إنكارها، والفن الكبير ذروة حياة شعب كبير.
هذا مدخل إلى الفن المعاصر في سورية، عاشقة الفن الجميل وعاشقها، لم يفتر هذا البلد عن إنتاج الفن منذ عصور سحيقة، وكان الفن إضافته الكبرى في ميدان الثقافة إلى جانب الزراعة والصناعة، ولقد كتب الكثير عن فن هذا البلد (سورية) وزراعته وإيمانه بالعدالة الاجتماعية. في سورية يتكلم الفن في هذه الأرض المعطاء خلال العصور المختلفة كما لو كان فناً واحداً يتطور، أو لم يصبح بعد عادياً مألوفاً، ولكنه ضروري، فتلك الثقافات الثلاث التي نشأت وعاشت في سورية والتي تعرف بالثقافات القديمة والمسيحية العربية والإسلامية، موصولة الأطراف بعضها ببعض في خبرة إنسانية كبرى، بدأت بالعصر الحجري الحديث وتطورت خلال العصور القديمة بسعيها بالتعامل مع العالم الخارجي، ثم خلال العصور الثلاثة المليئة بالحياة الفنية والزراعية وبرمجة حياة المواطن السوري في الحياة الحرة السعيدة والتفاهم مع شعوب العالم بالرقي والتقدم والإنسانية.
تلك الهندسة السورية الرحيبة وليدة حضارات سومر وبابل وأور وأكد وماري وأوغاريت وحضارة العباسيين، كما أن الأفكار المعمارية ليست حكراً للمهندسين والفنانين والمعماريين في سورية، فعندما نتأمل المباني التي يبنيها الإنسان السوري في مملكة ماري وأوغاريت لأنفسهم، نبتهج بذلك الثراء المعماري في الفن العربي السوري الذي أسهم في إنتاجه الجميع، والعمارة السورية أكثر من أي فن في العالم تتأثر بالمكان، لأنها خاضعة للظروف الجوية وعلى المعماري التعامل والتكيف معها، وعمارة ماري لها تشابه وثيق مع نقوش وقاعات ومكتبات وحدائق بابل، كل شيء جديد ما بين الحضارتين في البناء المعماري ورسوم الحيوانات وأواني الطبخ والأسلحة وقنوات الري المستخدمة في الزراعة وجمال الطبيعة مثل النخل والشجر وزراعة الحبوب.
في سورية قديماً وحاضراً، الطبيعة الحمراء في واحتها المستطيلة يعيش الإنسان السوري فيها عاشقاً لأرضه، محباً لوطنه، يحب الطبيعة ويلمسها بنباتاتها وطيورها وأسماكها في فن العصور القديمة والحاضرة، رغم أن الفن في سورية اليوم أصبح هندسي الصنعة، والواقع أن التواصل بالحياة اليوم لم يختطف قط من هذه البلاد العظيمة حتى في العصور الثلاثة، عندما كانت الدنيا خارج الإنسان ليست هي بؤرة الانتباه، كانت الطيور والنباتات والنجوم موجودة في الفن السوري، وفي مقابر الملوك والعظماء عبر التاريخ، وليس لعمر التاريخ السوري حد في هذه الدنيا.
د.رحيم هادي الشمخي