رسائل غسّان إلى غادة.. حبٌّ للأبجديّة وحدها
تردّدت كثيراً قبل الحديث عن رسائل غسان كنفاني لغادة السمان، ربما لأنّني شعرت أن غادة أخطأت حين أظهرت رسائل غسان لها، وربما لاعتقادي أنَه ذلك النوع من الحب الذي يجب أن يبقى مستتراً حبيس الأرواح فقط، لا يحقّ له أن يُتداول وأن يظهر للعلن، لكنّني تجاوزت الأمر يقيناً مني أن الرسائل بحد ذاتها قيمة أدبية إبداعية؛ تحمل من البوح ما يجعلها تتسامى لقمّة الأدب، وربما لأنني أريد أن أتبنّى قناعة غادة نفسها بأنها رسائل حبّ مشترك للأبجدية وحدها.
تكشف “رسائل غسان كنفاني لغادة السمان” الوجه الآخر المختلف لشخصية غسان الأديب المناضل، غسان الذي تصوغه الحروف فيتماهى بها ومعها، يسلّمها دفة القيادة دون أن يسأل عن وجهتها ومنطقها ومعقوليتها، يكتب لأن ما في داخله يأبى البقاء أسير النفس ويتحيّن القلم للبوح، ظهر غسان الإنسان الذي يشتاق ويضعف ويتمنى وينتظر، تفرّد في وصف معاناته وما اعترى النفس من مشاعر استفاض بها بلغة موحية تأخذك نحو عوالمه الداخلية التي تأسرك بقدرتها على لمس الذات الإنسانية، وهو وفي ذلك كله، كان قريباً كما كان دائماً، ولكن هذه المرة بشكل مختلف، كان روحاً تتكلم..
في حوار صحفي مع أخ الشهيد غسان كنفاني عند سؤاله عن قصة غسان وغادة السمان قال: “لي تحفظات كثيرة على ما نشرته السيدة غادة السمان، وأسئلة كثيرة لم أجد لها أجوبة بعد، ولكن، وعلى الرغم من ذلك كله أقول بملء الفم، إنها بنشر رسائل غسّان عرّفتنا على جانب آخر من شخصية غسان الإنسان، وأدب غسّان الإنساني فنحن مهما أخذتنا مسارات النضال والالتزام الوطني والقومي، نملك مشاعر وأحاسيس يفترض أن نعبّر عنها بطرائق مختلفة ونحن نخرج من عباءة المادّة، إلى عوالم الروح.. فنحن بشر بالمحصلة ولسنا من سرب الملائكة، ولسنا في دوائر القداسة المطلقة”.
أجمل ما في هذه الرسائل أنها موجودة بخط يد غسان في الكتاب، ما يجعلك على تماس روحي منه، فخطه الصغير المنمنم وحروفه الدافئة تشعرك بقربه وبأنه على مسافة حرف منك، ورغم مرور سنوات على كتابتها، وعلى نشرها، إلا أنها تشعرك أنها كتبت للتو، ومن أجلك، تعبّر عنك أو تعبّر لك.
من يقرأ الرسائل يدرك أن غادة لم تظهر كعاشقة تبادل غسان الحب، قد تكون حاولت حماية نفسها وغسان من حب قد يودي ببيته وبعائلته، وربما أرادت له الاستقرار في حياته فابتعدت في محاولة لكبح جماح مشاعره، لكنها حين قامت بنشر الكتاب، بعد مرور عشرين عاماً على استشهاده، فهي إنما أرادت أن تعترف للعالم بأسره، وبعد سنوات من الصمت، بحجم الفقد الذي منيت به حين رحل غسان.
نشرت غادة الرسائل وأضرمت النار في الأوساط الأدبية دون تردد، غير مبالية بالهجمة النقدية التي تعرضت لها، معلنة نيتها إحياء العلاقة مع أدب المراسلات والاعتراف، وسد النقص العربي في هذا اللون الأدبي الذي لابد أن يأخذ حيزه المستحق في عالم الأدب، هناك جماليات في الأدب من حقها أن ترى النور، ولا يحق لأحد إخفاؤها.
هديل فيزو