القائد المفكر… لماذا أبحر في علم مقاصد التشريع؟
الدكتور محمد عبد الستار السيد وزير الأوقاف
دُهِش الجميع وهم يستمعون إلى خطاب الرئيس الأسد بكل كلماته وجمله ومعانيه ومغازيه وكذلك بمكانه وزمانه ونوعية الحضور، ولكن ما توقفت عنده ملياً هو غوصه في أهم العلوم الشرعية ألا وهو مقاصد التشريع الإسلامي بشكل عميق وانسيابي ومبسط للوصول إلى هدفه وغايته من مطالبة العلماء والعالمات بإيلاء هذا العلم العميق الأهمية الكبرى والعمل بمضمونه.
فما هو علم مقاصد التشريع الإسلامي ولماذا جعله الرئيس الأسد أولوية اهتمام علماء الشام بقوله:( إن ممارسة الشعائر لا يمكن أن تكتمل إن لم نصل إلى المقاصد، وهذه مشكلة كبيرة يجب أن نعمل عليها فإن كل مسلم يمارس الشعائر ينبغي أن تنتهي به إلى المقصد، ولن نصل إلى التطبيق الصحيح للدين دون المقاصد).
علم المقاصد الشرعية هو من أهم وأجلّ العلوم الإسلامية التي يمكن أن تنقلنا إلى التقدم والحضارة والعلم والأخلاق ونهضة المجتمع الشاملة فالكليات الخمس المعروفة بأنها مقاصد الشريعة (حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال) يمكن أن تختزل في درء المفاسد وجلب المصالح كما قال الإمام الغزالي، وعليه نجد أن المقصد الأعظم من الشريعة هو حفظ نظام المجتمع ، وهذا المعيار العام الذي جاءت به الشريعة الإسلامية يصلح لكل زمان ومكان وفي شتى الظروف .
إن المقاصد تمتاز بالنظرة العامة إلى المجتمع بأسره وليست مقتصرة على الفرد وبمراعاة هذه المقاصد للشريعة الإسلامية تسد ثغور كثيرة لا تظهر من خلال النظرة القاصرة على الأفراد كما أنها تراعي التوازن بين الحقوق الدينية والدنيوية وحقوق الله وحقوق العباد في المجتمع وتعالج حال الأمة في واقعها وتصف الدواء الناجع لها لتنتشلها من أزماتها التي تواجهها في كل زمان ومكان من خلال ثوابت الدين و نصوص الشريعة،
ولذلك جعل بعض العلماء المعاصرين المقاصد الشرعية أهم حل لكافة مشاكل المسلمين اليوم وإن الاتجاهات والنظريات الاجتماعية تبين أن شمول المصلحة التي قصدت الشريعة إقامتها وحفظها هي ليست فقط المصلحة الأخروية فحسب كما يدعي خصوم الدين، ولا المصلحة الفردية وحدها كما ينادي عشاق الوجودية وأنصار الرأسمالية، ولا مصلحة الجماعة أو البروليتاريا كما تدعو بعض المذاهب الاقتصادية والسياسية، ولا المصلحة الإقليمية العنصرية كما ينادي بذلك أصحاب العصبية، ولا المصلحة الآنية لجيل بحد ذاته كم تتصور بعض النظرات السطحية، إنما المصلحة التي قامت عليها الشريعة في كلياتها وجزئياتها ورعتها في كافة أحكامها هي المصلحة التي تسع الدنيا والآخرة وتشغل المادة والروح و توازن بين الفرد والمجتمع، وبين الطبقة والأمة والوطن، وبين المصلحة العامة والخاصة، ومصلحة الجيل الحاضر ومصلحة الأجيال المستقبلية هذا هو علم المقاصد الشرعية.
وقال بعض العلماء: (تتمثل مقاصد الشريعة الإسلامية في تحقيق عبادة الله وعمارة الأرض من خلال الإيمان ومقتضياته من العمل الصالح المحقق للسعادة في الدنيا والآخرة و الشامل للنواحي المادية والروحية والذي يوازن بين مصالح الفرد والمجتمع والذي يجمع بين المصلحة القومية الخاصة والمصلحة الإنسانية العامة، وبين مصلحة الجيل الحاضر ومصلحة الأجيال المستقبلية كل ذلك بالنسبة للإنسان والأسرة والإنسانية جمعاء).
إن ما قرره الأئمة الأوائل من المقاصد يعد معياراً تعرض عليه التحولات التي تعتري الحياة وليس هو الحد الذي نقف عنده لأن المقاصد مبناها على جلب المصالح ودرء المفاسد، والمصالح والمفاسد يمكن حصرها وتحديدها لأن معاييرها وضوابطها ثابتة لا تتغير.
نقل العلامة ابن عاشور: (إن تحديد ضرورية المصالح في المجتمع يخضع لما هو متحرك فيه لا ما هو ثابت، لما هو متغير لا لما هو جامد ، معنى ذلك أن تأصيل الضروريات المصلحية لايستند فيه الباحث على مجرد مقررات الشرع بل لابد له من الالتفات إلى الظروف المتباينة التي تنزل فيها هذه المقررات، ويدعو هذا الفهم إلى التسليم بتاريخية طبيعية الحصر لضروريات مصالح العباد كما تقرر عند العلماء ليس فقط في مجرد حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال بل يشمل فضلاً عن ذلك ضروريات أصبح المجتمع أشد حاجة إليها في الوقت الحاضر ، هذا كله من علم المقاصد).
وفي الخلاصة :
إن ما طرحه الرئيس الأسد حول علم المقاصد ومطالبته العلماء والعالمات العمل عليها لاشك أنه طريق الخلاص الوحيد وخارطة الطريق الصحيحة لنهضة دينية كبيرة وإخراج للمسلمين وللمجتمعات الإسلامية والعربية من معظم مشكلاتها حيث مرت على الأمة وعلى الأوطان قرون طويلة يعيش المسلمون فيها على هامش الحياة لا يؤثرون في المسيرة الحضارية للأمة، ولا يمثلون حقيقة ما أراده الله تعالى منهم و لهم حين قال تعالى:( كنتم خير أمة أخرجت للناس) ،( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) وذلك عندما أصبحت العبادات والأحكام عندهم شعائر لا مقاصد لها وصوراً لا حقيقة لها وأشباحاً لا روح فيها ولابد أن ندرك أن من أهم أسباب تخلفنا غياب الوعي عن المقاصد الشرعية، فإذا أدت العبادات مقاصدها تحولت من حالات فردية إلى إصلاح للمجتمعات وتكريس للأخلاق والاستقامة يعمُّ بها النفع العام على الوطن والمواطنين ، فمقاصد التشريع هي التي تترجم العبادات بالسلوكيات أي تربط الأخلاق بالدين فالأخلاق هي مقصد كل المقاصد الشرعية ، وكان أول من نبه لذلك بوضوح السيد الرئيس بشار الأسد في خطابه الأخير، لذلك فإن ما جاء في مضامين هذا الخطاب وتحديداً ما يرتبط بمقاصد التشريع يشكل حافزاً للمفكرين ولعلماء الدين أن ينطلقوا من نقطة المقاصد كي يصلوا بمحتمعاتهم إلى برِّ الفضيلة والتقدم ويبعدوا عنها شبح التطرف والتخلف .