“حليب أسود”.. حين تتحوّل أسرار الأمومة إلى حبر للقلم
تستهوينا عوالم الأمومة الآسرة، عوالم مجرّدة لا قواعد فيها أو منطق، تمتزج فيها الألوان والمشاعر إلى حدّها المطلق، ورغم أنها تُبنى بالكثير من الحب، إلاّ أنها تُسيّج بالكثير من الخوف، خوفٌ من الأمومة وعليها، تتعارض في أرضها الأحلام، وتعلن صراعاً داخلياًّ مختلفاً، تشتدّ وطأته ليبلغ مداه الأقصى، صراعٌ أجمل ما فيه أنه صراع الذّات مع الذّات للوصول إلى الذّات، جمال ٌيتبدّى بالمشهدية التي يمكن أن يجسّدها هذا الصّراع المسكون داخل كل أنثى، ومواجهته وجهاً لوجه، ففي الوقت الذي تتنافس”الأمومة” مع “الحلم”؛ هناك كائن خفي يقبع في الزوايا اللامرئية، ويتأمل من بعيد، لينشد الصواب ويخلق الرؤيا..
عند هذا المنعطف الحذر، أعلنت “إليف شافاق” التّحدي وإرادة التغيير عبر رحلتها الذّاتية، ومن رحم معاناتها، لتطرح بروايتها “حليب أسود” هواجس الأمومة والحلم.
كان لا بدّ أن يكون القالب العام للرواية هو الذاكرة الحقيقية التي تستفيض “إليف” بوصفها، فهذا الكمّ الكبير من صدق التجربة والتوصيف المشهدي لها والانسياب التام مع الحالة السرديّة والتّماهي بها، كان لا يمكن إلا أن يكون حقيقيّاً، فرغم قدرة الخيال والمتخيل على التأثير، إلا أن للحقيقة دائماً وقعها الخاص وقدرتها على الإقناع وترك الأثر، خاصّة إن كان من تصدى لهذه الحقيقة أديبة تمتلك القدرة الفائقة على تجسيد الخيال حقيقة وبإتقان، فما بالنا إن نقلت الحقيقة ذاتها..
عبر ثنائيّة اللّون، الأبيض والأسود، رسمت “إليف” عوالم الأمومة، فسيطر الحزن أحياناً والسعادة أحياناً، واختلطت المشاعر باللونين في أحيان كثيرة، فكان لثقافة اللون في الرواية وقعها الخاص، بدءاً بالعنوان، مروراً بلوحاتها المختلفة، كما تستوقفك في الرواية قدرة الأديبة الفائقة على سبر ذاتها والتوغل بعمق في أناها وعوالمها الداخلية وتوصيفها ببراعة، تجلى ذلك بوصف الشخوص المتعددة والمتصارعة الموجودة داخلها، وربما داخل كل منا، وتحويلها إلى جوقة من أصوات الفوضى، تمنحها بقدر ما تحرمها، وتسعدها بقدر ما تشقيها، لكنها تحول هذا التشتت والتشظي والصراع إلى حالة حوارية مختلفة وفريدة.
بالقدرة نفسها أن استطاعت “شافاق” أن تلج، وعبر تجربتها الشخصية إلى عالم اكتئاب ما بعد الولادة ورحلتها معه، وصولاً إلى قدرتها على التعايش معه ومن ثم رحيله، فجسدت بمعاناتها آلام وآمال أمهات كثيرات، استطاعت دخول دهاليز عوالمهن والإضاءة على الزوايا المعتمة فيها، كما لم تكتف، عند التطرق لاكتئاب ما بعد الولادة، بالاقتصار على وصف التحديات التي تتعرض لها الأنثى حين تكون أماً، بل إنها تحاول وعبر سطورها المؤثرة تحويل هذه المصاعب والتحديات إلى خلق وإبداع، ومن رحم هذه المعاناة ذاتها، لتثبت لنفسها، ربما، ولغيرها من النساء أن هذه الهواجس التي تنتاب المرأة يمكن تجاوزها بالإصرار والتمسك بالحلم، لتضع بذلك النساء عموماً، والأديبات وجهاً لوجه مع هواجسهن بعدم قدرتهن على الإبداع بعد التزامهن بأمومتهن، محاولة الإضاءة على نماذج مختلفة وشخصيات متعددة، فإن كانت هناك مبدعات كثيرات فضلن نجاحهن الشخصي على أمومتهن، إلا أن هناك في المقابل أمهات كثيرات استطعن أن يحولن أمومتهن إلى إبداع مختلف واستثنائي.
سكبت صاحبة “قواعد العشق الأربعون” حبر أمومتها على ورق أبيض، لتصوغها حروفاً تنبض صدقاً وعمقاً، فأعطت للتجربة أبعادها، وأضاءت على أرض كان لابد من دخولها، لتتجول باقتدار بين جنباتها، وصولاً إلى الوضوح الكامل للرؤيا التي أرادتها وأرادت أن نراها.
هديل فيزو