الرّؤيا الأدبيّة للجائحة.. المعالم والأبعاد
قد تتباين النّظريات حول الجائحة وخفاياها، والأثر الذي تركته، أو الذي ستتركه لاحقاً على الإنسان بعوالمه وأبعاد وجوده، إلا أنّ الثّابت والأكيد أنّ الرّؤيا للحياة قد تغيّرت، وفي أدقّ جزئيّاتها، ليتغيّر معها كلّ ما يجسّدها ويصوّرها ويعبّر عنها، وإذا كان الأدب، في زاوية من زواياه، يستحيل مرآة تحمل على عاتقها مهمّة محاكاة الواقع، فإنه بالضرورة سيتحتّم عليه نقل الصورة بتفاصيلها وحيثياتها، وسواء استطاع أن يصل إلى عمق الصورة وحقيقتها أم لا، إلاّ أنه سيترك أثراً ما، سيتحوّل وثيقة أدبيّة تؤرّخ لزمن ولحقيقة ومحنة إنسانيّة لا بدّ من الوقوف عندها واستجلاء معالمها.
وإذا كانت العديد من الأعمال الأدبيّة، السرديّة منها خصوصاً، قد استطاعت النّهوض بهذا النوع من الأدب سابقاً، حين تناولت عوالم الجّوائح وسبرت أغوارها، إلا أن أغلبها اعتمد على التنبؤ والاستشراف والخيال، ورغم ذلك، تمكّنت هذه الأعمال من ترك أثرها في المتلقي، وحصدت مكانتها الخاصّة في عالم الأدب. لكن هنا، في عالمنا، وفي زمننا، يفرض الوباء ذاته، ويعلن نفسه حقيقة مُرّة وأكيدة، لا شكّ فيها ولا مفرّ منها، ليرسم واقعاً يحمل في جنباته الكثير من التّفاصيل والحقائق التي لا بدّ أن تترك أثرها الخاص على الأدباء وعلى رؤيتهم الجديدة للعالم، فالكثير من الرّوائيّين وكُتّاب القصّة والشّعراء سيجدون في هذا الواقع مكاناً خاصّاً بهم، وسيحرصون على ترك أثرهم فيه، كلٌّ حسب رؤيته، حاملين على عاتقهم هذه المهمّة الصّعبة، بما تتكبّده من عناء مصداقيّتها وقدرتها على نقل الحقيقة كما هي، دون تسييس أو تزييف، وبما تتطلّبه من قدرة أدبية خاصّة، تستجلي مرحلة إنسانية هامة، لا بدّ لها أن توثّق، الآن أو بعد حين.
نخب العالم أمام تساؤلات مفتوحة بلا إجابات مقنعة
لأوّل مرة في تاريخ الوباء نشهد هذا المقدار من التغطية الإعلامية التي تترافق بالمبالغة والتهويل، هكذا وصف الأديب، ناظم مهنا، دور الإعلام في نقل المشهد الوبائي، ما أنتج، برأيه، ردود فعل واستهتار من جهة، وذعر عند آخرين من جهة ثانية، هذا الوباء وضع العالم كله وجهاً لوجه أمام الخطر الكوني فهو عالمي يصيب كل الأمم والأغنياء والفقراء، وأظهر عجز العالم حتى في ذرواته العلمية عن مواجهة فيروس قدموه لنا على أنه متقلب ومتجدد، وترافق ذلك أيضاً مع معلومات عن الفيروس متبدلة ومتناقضة وغير ثابتة، سيكون لهذا الفيروس، بحسب مهنا، آثاره الكبيرة على كافة الأصعدة، وستكون له آثار لمدى طويل، لا سيما على المستوى المعرفي والثقافي، إنه يضع نخب العالم في حالة فوضويّة من التساؤلات المفتوحة بلا إجابات مقنعة.
هكذا سينتهي العالم!
ويرى، مهنا، أن الأثر الذي ستتركه الجائحة في عوالم الأدب يتوقف على مكوث الوباء في عالمنا، هل سيطول أم سيزول قريباً، العالم، ذهنياً سيكون أمام احتمالين أو أكثر، إما التشاؤم وإما التهكم، والفنون نتاج فردي دائماً تعبر عن ذهنيّة منتجها، مع تأثّره بالواقع وبالوقائع، فنحن في هذا الزمن التقني الجديد نعيش عصراً انتقالياً الحدود فيه متداخلة، هو مع المستجدات التي تأتي في طياته، سيؤثر على التفكير والفنون والآداب في الشكل والمحتوى، وستتغير القصص والروايات بشكل غير ملحوظ بصرف النظر عن الحكم القيمي، وفي هذه اللحظة يتذكر مهنا قصيدة إليوت..”الرجال الجوف”، التي تنتهي وفق الترجمة على الشكل التالي:
“هيك ينتهي العالم.. مش بانفجار لكن بانفلاش”.
نظريّة “المليار الذّهبي” القاتلة!
في مثل هذه الظروف تتوقف أنشطة الحياة، ويشلّ التلاقي بين الناس، وذلك بسبب الخوف على الحياة، والحياة هنا تعني الناس، هكذا يصف الأديب حسن حميد، الجائحة التي نمرّ بها، ليضيف: مثل هذا كان يحدث عندما تنتشر جائحة أو مرض مثل الطاعون، فتتعطّل شواغل الحياة، ويفرّ الناس من الوباء، طلباً للنجاة، والحال اليوم هي كذلك تقريباً على الرغم من تطور الخدمات الصحية، وتقدم علوم الطبابة، وهذا ما وعيناه في جل بلدان العالم على اختلاف جغرافياتها، لا شك أن وجوهاً كثيرة من وجوه الحياة لم تعد كما كانت بسبب انتشار الوباء، لكن الأهم يتمثل في أن السعي حثيث من أجل مواجهة هذه الجائحة.
ويؤكد حميد أنه تُثار تقوّلات كثيرة حول أسباب هذه الجائحة، مثلما تُثار تقوّلات كثيرة حول آثارها، كإخفاء للمعلومات الدقيقة وأعداد المصابين والمتوفين، لكن الأهم هو أن البشرية اليوم أمام درس كبير يدور حول المعاني الإنسانية، أي أن الجميع في مركب واحد، لأن الأرض بيت الجميع، وهذا يقودنا، وفقاً لحميد، إلى تفحص التقولات التي تقول إن وراء الجائحة أبعاداً سياسية تتحدث عن “المليار الذهبي”، أي الإبقاء على مليار إنسان فقط من المليارات السبعة الموجودة فوق كوكب الأرض، لابد من فحص هذه التقولات لأنها خطيرة جداً، وهي إن صحّت فهذا يعني التهديد للمعنى النبيل لحق الإنسان في الحياة، وكفالة هذا الحق.
الخوف سيجتاح الرّوايات
وعن الأثر الذي ستتركه الجائحة في الأدب، يرى حميد، أن الأدب شاغل من شواغل الإبداع والنشاط الثقافي، وقد تأثّرت المنظومة التي تنتج الأدب بسبب شيوع الجائحة، فالكاتب راح ينتظر مثله مثل الآخرين، والصحف والمجلات ومعارض الكتب والأنشطة والملتقيات والمؤتمرات توقفت، والمطابع تقلص عملها أيضاً، ودور النشر شلّت فعاليتها، لكل هذا تأثير الجائحة كان كبيراً ومعوقاً لانتشار الكتاب عامة، والرواية هي جنس من أجناس الأدب لذلك تأثرت سلبياً بسبب هذا التوقف وذلك الشلل، ولكن على صعيد الكتابة والإنتاج الروائي، فإن الحال، حسب حميد، كانت أحسن وأكثر إيجابية، لأن العزلة التي عاشها الروائي مكّنته من أن يكتب مشاريعه الروائية، أي ما كان يفكر به، ويتمنى سانحة من الوقت كي يجالس ما فكر بكتابته كي يكتبه بعيداً عن شواغل الحياة ومتطلباتها، فشهور العزلة التي فرضتها جائحة كورونا، كانت فرصة استثمار هائلة التقطها كتّاب الرواية كي يكتبوا ما فكروا به، وما حلموا بإنجازه، ولهذا فإن الخوف الذي صاحب الجائحة ستبدو علاماته واضحة في الروايات التي ستصدر تباعاً، حتى لو لم يكن السرد الروائي يدور حول المخاوف من الجائحة نفسها.
انحراف مسار أدب الأطفال
وحول الأثر الذي تركته الجائحة على أدب الأطفال عموماً، لفتت الكاتبة في مجال أدب الطفل، انتصار بعلة، إلى أن الجائحة ساعدت في اكتشاف المواهب الكامنة لدى الأطفال، وخاصة الأدبية منها، على الرغم من أن الجائحة أوقفت نشاطات الأطفال الثقافية فيما يتعلق بارتيادهم المراكز الثقافية، وأكدت الكاتبة، أن الأدب صار أكثر توجيهاً، إذ انحرف مسار أدب الطفل نحو سلامة الطفل وصحته، وبرزت مسألة مهمة جداً وهي تعزيز روح الجماعة عند الطفل، فالالتزام بالقواعد البسيطة والمهمة لا تحافظ على سلامة الطفل فحسب، بل على سلامة العائلة والوطن ككل.
وحول مشروعها الخاص بالجائحة، أشارت انتصار، إلى ضرورة الاهتمام أكثر بأدب الطفل والمكتبة في المدارس، مؤكدة أنها باشرت بمشروع موجه للأطفال، وهو تحويل بعض العادات الصحية السليمة إلى كتيبات صغيرة للأطفال وبرسوم جذابة، في محاولة لرفد أدب الطفل كونه الطريق الأسرع لبناء الطفل وبناء المستقبل.
أيّاً كانت نظريات الجائحة وأبعادها ورمزيّتها، وأيّاً كان شكل الأدب الذي ستمثّله هذه المحنة بكلّ ما تحمله من حقائق مخيفة، وما تكتنزه من سبل التحدي والمواجهة بحثاً عن البقاء، إلا أنه سيكون أدباً مختلفاً، يحمل من أسباب تميّزه ما يجعله يرفد الدروب الأدبية بعالم خاص كرّس معنى آخر للحياة، وأصرّ على ترك أثره الذي لن يمحى.
البعث ميديا || هديل فيزو