التطوير والإلغاء في الموسيقا والغناء العربي
بعض من يتعاطون الدعوة إلى تطوير الموسيقا العربية والغناء العربي، لا يريدون تطويراً ولا تحويراً، بل يريدون الإلغاء التام لموسيقانا وغنائنا تحت شعار التطوير، ولا يجدون غضاضة في المناداة الصريحة بقذف الغناء العربي وملحقاته في قمامة التاريخ، وقد يكون للأجانب عذر في عجزهم عن تقدير غنائنا وموسيقانا، ولكن ما هو عذر البعض من العرب الذين يقلّدونهم تقليداً أعمى في عدائهم للغناء العربي الذي هو غناء بلادهم ومواطنيهم؟ وقد بلغ الأمر بواحد منهم أن أنكر فضل العرب على الموسيقا الأوروبية، فقال: إن الموسيقا الأوروبية تشبه وحياً هبط على الأوروبيين من أعلى، بلا مثال سابق وبلا تمهيد، الذين يقولون ذلك لاشكّ في أنهم سمعوا عن العلامة الموسيقي البغدادي (صفي الدين عبد المؤمن) الذي قال: (إن البعد المتوافق في الموسيقا هو الذي ترتاح إليه الأسماع، والذي لا ترتاح إليه يسمى التنافر).
وهم يعرفون أيضاً أن العلامة (الفارابي) الذي كتب عن (التأليف الموسيقي) قبل أن تعرف أوروبا هذا المصطلح بعدة قرون، وشرح معناه وعناصره وما يحتويه من تركيب وتضعيف في الأنغام والإيقاعات وغيرها، وهم يعرفون عباقرتنا الذين كتبوا أضخم الكتب في الموسيقا أمثال: ابن سينا والرازي والخوارزمي وإسحاق الموصلي والأصفهاني، ولعلهم يعرفون أن هؤلاء الأعلام تحدثوا في بعض كتبهم عما نسميه الآن (الهارموني) وحدود السلالم الموسيقية والإيقاعات الدقيقة، وعلموا الأوروبيين الموسيقا قبل أن ترفع نغمات الآرغن في الكنائس الأوروبية.
إن تطوير الغناء العربي والموسيقا العربية يشمل مجموعة من القضايا المعقدة التي درسها أول مؤتمر للموسيقا العربية في القاهرة عام 1932، ثم درسها المؤتمر الثاني في بغداد عام 1964، وتوالى درسها بعد ذلك في اجتماعات رسمية وغير رسمية في البلاد العربية وخارجها، وصدر عن أحد هذه الاجتماعات ما يؤيد ما ذهبنا إليه منذ بدأنا نكتب في الغناء قبل ربع قرن، من أن الغلبة عند العرب (العزف بالآلات الموسيقية) لا يصح استهجانه، لأن لكل أمة منهجها وذوقها في الموسيقا والفنون.
إن مشكلة المقلّدين عندنا هي غرامهم بتقليد الشكل الضخم للموسيقا الأوروبية، من دون أن يسهموا بشيء يُضاف إلى عمل الأوروبيين ويتمثل فيه الطابع القومي لهؤلاء المقلّدين، وهذا هو أصل فشلهم وعجزهم في الوصول إلى أسماع المواطن العربي، وقبل عشرات الأعوام كان يُقال في محافل هؤلاء المقلّدين إن وجود مطربة عظيمة مثل أم كلثوم قد حال دون تطوير الموسيقا البحتة، وقد تم تفنيد هذا القول، فإن المرحومة أم كلثوم على أهميتها التاريخية الكبرى في الغناء العربي لم تكن تمثل سيطرتها الفنية الشخصية، بل كانت تمثل سيطرة فن الغناء العربي على وجدان الإنسان العربي، بغض النظر عن الدور الفني التاريخي الخاص الذي تؤديه أم كلثوم، وما قيل عن أم كلثوم، قيل بعضه عن محمد عبد الوهاب والأصوات الأخرى التي اكتسبت سيطرة خاصة على الأسماع العربية مثل (فيروز، وديع الصافي، صباح فخري، محمد القبنجي، حضيري أبو عزيز، ياس خضر) فهذه الأصوات أثبتت بسيطرتها على الأسماع أن الغناء العربي (المتقن) كما سماه (الأصفهاني) في كتاب الأغاني، لا يمكن مغالبته بالموسيقا البحتة مهما كان شأنها، لأن لا مجال غير مجالها، ولا مكان في وجدان المستمع العربي غير مكانها.
د.رحيم هادي الشمخي