دوليسلايدسياسة

مفاعل “ديمونة”.. سرّ “إسرائيل” المظلم

في الوقت الذي تشتعل فيه المنطقة العربية بالحروب والتوترات، وتتصاعد في ظّلها الأزمات الاقتصادية والسياسية، يحاول الكيان الإسرائيلي، وبسريّة تامّة، استغلال الوضع القائم بهدف تعزيز قدرته النووية “المسكوت” عنها، في ظلّ ما يرافق ذلك من صمت أممي مطبق، وازدواجيّة المعايير التي يتّبعها السّاسة الغرب في تعاملهم مع ملفات المنطقة، وتأتي التّحركات الإسرائيلية الجديدة تجاه توسعة مركزها النووي، مع الغموض الذي يكتنفها، لتؤكّد أن اتّفاقيات التّطبيع مع الكيان ما هي إلا خدعة كبيرة لتأمين غطاء سياسي لمخططاتها النووية الدفاعية الجديدة، وأنّ المخفي في البرنامج النووي الإسرائيلي هو أشد خطراً مما هو مُعلن ومتوقع.

 

“تحرّكات” مريبة

منذ عقود، يسعى الكيان الإسرائيلي إلى إخفاء كل تفاصيل برنامجه النووي، معتمداً سياسة ضبابية حيال قدراته النووية، فهو لا يعترف بامتلاكه مفاعلاً لصناعة أسلحة دمار شامل، ويعرّفه رسمياً بأنه “مركز أبحاث ديمونة”، وفي الوقت الذي يطالب فيه بالحد من البرامج النووية في الشرق الأوسط وتقويضها، يسعى جاهداً لإخفاء أدق التفاصيل المتعلقة بملفه النووي، إلا أن تفاصيل جديدة عن هذا الملف قد كُشفت، حين نشر الفريق الدولي المعني بالمواد الانشطارية (IPFM)، وهو هيئة تضم خبراء نوويين من 17 دولة، منذ أيام، صوراً التقطها قمر صناعي في الرابع من كانون الثاني الماضي، تؤكد أن الكيان يعمل على توسيع موقع “ديمونة” بشكل ملحوظ، وفقاً لما نشرته صحيفة “ذا غارديان” البريطانية، وتظهر الصور أن هذه الأعمال تجري بمشاركة عدة آليات بناء وتتركز في المرحلة الحالية على منطقة محفورة واسعة النطاق.

الفريق رجح أن أعمال البناء هذه انطلقت أواخر 2018 أوائل 2019 وتجري حالياً على قدم وساق، ولم يتم رصدها في السابق، لأن آخر صور لهذا الموقع النووي الإسرائيلي تعود إلى عام 2011، كما تظهر الصور بشكل واضح حفرة بحجم ملعب كرة قدم، ومن المحتمل أن يشير هذا العمق إلى بناء من عدة طوابق يقع الآن على بعد أمتار من المفاعل القديم بالقرب من مدينة ديمونا.

وذكر تقرير أورده موقع “والا” الإلكتروني الإسرائيلي، أن ظروف البناء والغرض منه غير واضحين، وحسب الصور يبدو أنه تم حفر حفرة بعمق 150 مترا وعرض 60 مترا جنوب المفاعل نفسه، وتظهر الوثائق أيضاً قناة تم حفرها بطول 330 مترا، وعلى بعد حوالي كيلومترين غرب المفاعل، رصدت الصور صناديق في حفرتين تشبهان القواعد، كما يمكن أيضاً رؤية بقايا الحفريات في هذه المنطقة.

معايير مزدوجة

الصمت الدولي الذي يعتري هذا الملف، وعدم رصد أي ردة فعل دولية حياله، سابقاً، وفي الوقت الراهن، وعدم خضوعه لأي رقابة دولية، يؤكد تواطؤ الغرب مع إسرائيل، كما يعبر عن سياسة الكيل بمكيالين التي ينتهجها، ففي الوقت الذي تشن هجوماً حاداً ضد البرامج النووية لدول المنطقة، تعمل الدول الغربية على تجاهل كل ما يتعلق ببرنامج “إسرائيل” النووي، مبتغاها في ذلك، زيادة القدرة الدفاعية الإسرائيلية في الشرق الأوسط وتفوقها لضمان أمنها على حساب غيرها من الشعوب.

هذا، بالضبط، ما أكده وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الذي تساءل عمّا إذا كان يشعر ماكرون وميركل وجونسون وبايدن بالقلق من توسيع “إسرائيل” مفاعل “ديمونة” النووي، موضحاً أن “إسرائيل تواصل توسيع مفاعل ديمونة، المصنع الوحيد في المنطقة لصناعة القنابل النووية”، ظريف أرسل في تغريدته إشعارات لحسابات الرئيس الأمريكي جو بايدن، ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وطلب منهم التعليق على الموضوع، وتابع: “هل تشعرون بقلق عميق؟ هل أنتم قلقون قليلاً؟ تريدون التعليق؟ هذا ما ظننته!”، في إشارة إلى صمتهم تجاه توسعة “إسرائيل” مركزها النووي.

 

غموض نووي.. خداع واشنطن

السرية التي تسيطر على هذا الملف ليست حديثة العهد، بل تعمّد الكيان الإسرائيلي التكتم على برنامجه النووي منذ عقود، منذ بداية نشوئه، خشية مراقبته وإيقافه، وفي محاولة لاستكمال مخططاته غير المعلن عنها ببناء استراتيجية الردع النووي من أجل بقائه المهدد بالزوال في أي لحظة.

المفاعل الذي بني في خمسينيات القرن الماضي، تم الكشف عن دوره في برنامج “إسرائيل” النووي السري لأول مرة عام 1986 من قبل الخبير النووي الصهيوني مردخاي فعنونو، الذي كان موظفًا سابقًا في هذا الموقع وغادر الكيان إلى بريطانية، وروى قصته لـ”صنداي تايمز” البريطانيّة عام 1986، لتختطفه المخابرات الإسرائيلية “الموساد” بعد فترة قصيرة من حديثه مع الصحافة البريطانية، ويمثل أمام محكمة ، ويحكم عليه بالسجن 18 عاما بتهمة “التجسس وإفشاء الأسرار”.

بُدىء بالعمل ببناء المفاعل عام 1958 بمساعدة فرنسا، واستمر العمل فيه ما بين سنتي 1962 و 1964، لكن الهدف المعلن من إنشائه كان “توفير الطاقة لمنشآت تعمل على استصلاح منطقة النقب”؛ ما يعني استخدامه للأغراض المدنية “السلمية” حصراً، في تلك الفترة، سادت حالة من عدم اليقين حول معرفة حكومة الولايات المتحدة بالبرنامج النووي الإسرائيلي، وبينما كثرت الشكوك حوله لم يكن لدى واشنطن أبداً دليل قاطع على أن “إسرائيل” كانت تسعى إلى امتلاك قدرة عسكرية نووية، وبحسب الوثائق، فإن كبار المسؤولين الأمريكيين، آنذاك، كانوا في حيرة بشأن التوجه المستقبلي للمجمع النووي الإسرائيلي في ديمونة، ليبلغ وزير الخارجية الأمريكي الأسبق “هنري كينسجر” دبلوماسيين أمريكيين في “إسرائيل” عام 1965 أن “إسرائيل لديها برنامج لإنتاج الأسلحة النووية”، وذلك عندما كان كيسنجر مايزال أستاذاً بجامعة هارفرد، وذلك بناء على “ترجيح” خلص إليه، لكنه كان يفتقد الدليل الدامغ على تحققه، لكنه بات، في عام 1969، وبعدما أصبح مستشارا للأمن القومي في إدارة الرئيس “ريتشارد نيكسون”، بات على علم فعلي ببرنامج الأسلحة النووية الإسرائيلي، الذي أصبح حقيقة واقعة.

فشل الولايات المتحدة الأمريكية في اكتشاف إعداد الكيان الإسرائيلي لقدراته النووية “العسكرية” في ستينيات القرن الماضي والخداع الذي تعرضت له، وثّقه الباحثان، الإسرائيلي “أفنير كوهين”، المحاضر في دراسات منع نشر السلاح النووي، والأمريكي “وليام بار”، المحلل في أرشيف الأمن القومي بجامعة “جورج واشنطن”، ومدير مشروع التوثيق النووي للأرشيف، وذلك عبر تقرير نشراه بصحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، ضمن سلسلة تقارير حول أرشيف برنامج التسلح النووي الإسرائيلي، واستند الباحثان إلى وثائق أمريكية رُفعت عنها السرية مؤخراً، لتكشف عن خلاصة مفادها أن عملية “خداع” تعرضت لها وكالات الاستخبارات الأمريكية في منتصف ستينيات القرن الماضي، تقف وراءها كل من “إسرائيل” وفرنسا، وعلى أثرها تمكنت تل أبيب من امتلاك السلاح النووي عبر تطوير قدرات مفاعل “ديمونة” بصحراء النقب.

 

خطر محدق

الخطر الذي يحيط بمفاعل ديمونة لا يكمن في وجوده، وبما قد يؤدي إليه، وباعتباره يهدد الأمن والسلم في المنطقة، ليس ذلك فحسب، بل بما يسببه وسببه على مدار سنوات وجوده في المنطقة، ففي اعترافٍ هو الأول من نوعه -عام 2019- قال مركز ديمونا النووي الصهيوني إنه على مدار السنين وقعت العديد من حوادث التسرب الإشعاعي، وجاء هذا في مستند قانوني على خلفية دعاوى لمرضى السرطان الذين يقولون إنهم أصيبوا بالمرض بسبب هذه التسربات.

ومن المعروف سابقًا أنّ الكيان الصهيوني قام بدفن مخلفات إشعاعية في أراضي محافظة الخليل الأقرب للمفاعل والتي تنال الحصة الأكبر من أضراره على الصحة البشرية والحيوانية والبيئة، وأشارت دراسات سابقة إلى ارتفاع معدلات المصابين بالسرطان في مدينة الخليل وبخاصة القرى القريبة من المفاعل النووي جنوب المحافظة، وكشفت عن ارتفاع تركيز عنصر السيزيوم في بيئة الخليل، حيث وصل إلى 137، بفارق ثلاث درجات عن المعدل العام في دول العالم، وهو 134، ويأتي هذا العنصر من المفاعلات النووية ونفاياتها حصرياً، وتعد هذه النسب الأعلى إذا تم استثناء الدول التي تعرضت لكوارث نووية مثل أوكرانيا، التي تعرضت عام 1986 إلى انفجار المفاعل تشيرنوبل، واليابان التي واجهت أيضًا انفجار المفاعل فوكوشيما عام 2012.

 

في ظل التحركات الإسرائيلية الجديدة والجدية في مفاعل ديمونة، هناك الكثير من التساؤلات التي تطرح والمواقف المنتظرة والخطوات الفعلية الدولية الواجب اتخاذها، والبحث عن دور الرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، حول ملف هو نفسه شكل مصدر هجوم كبير ضد دول أخرى، وهو الملف الذي تشي معطياته الجديدة بخطر كبير يهدد المنطقة ككل، فرغم ادعاء “سلمية” البرنامج النووي الإسرائيلي، إلا أن إخفاءه وتعمّد الغموض في كل  التفاصيل التي تحيط به، ورفض خضوعه لأي رقابة، كل ذلك يؤكد أن وراء الأكمة ما وراءها.

خاص || البعث ميديا