هل يعزز الحزب أدبياته وتاريخه النضالي؟: مؤتمرات فروع البعث السنوية
د. عبد اللطيف عمران
تعاني في عالم اليوم الأحزاب السياسية جميعها في تحقيق أهدافها، وفي ضبط وسائل تحقيق هذه الأهداف، سواء أكانت هذه الأحزاب عقائدية أم براغماتية، تقليدية أم حديثة، وذلك في مشرق العالم ومغربه. وفي وطننا العربي أيضاً، هناك معاناة للأحزاب التي نشأت في خضمّ حركة التحرر الوطني والاستقلال العربية، فقسم من هذه الأحزاب لفظ أنفاسه الأخيرة، وقسم في الطريق، وآخر يعمل على تجديد نفسه، مقابل انفجارفي نشوء أحزاب جديدة مات أغلبها بعيد حصوله على الترخيص الرسمي، وعلى أشكال من الدعم لم تكن مستقرة. هذا يدفع إلى مزيد من الاهتمام بالظاهرة الحزبية، خاصة حين يكون الحزب حاجة تاريخية ومعنياً بالحفاظ على دوره في المجتمع والدولة بغض النظر عن تقييم هذه المقدرة وتقلباتها.
ولا شك في أن حزب البعث العربي الاشتراكي واحد من هذه الأحزاب التي تضاءل عددها اليوم، له خصوصيته وتميّزه في ماضيه وواقعه، باعتباره من أقدم الأحزاب العقائدية التي استطاعت أن تحافظ على حضورها في المجتمع والدولة – إلى حد ما – ولاتزال تطمح إلى تعزيز هذا الدور، بل إلى تطويره في مواجهة التحديات التي تجابهه وتجابه الشعب والوطن والأمة، ولذلك حريّ به أن يعتزّ بهذا، وأن يقرن هذا الاعتزاز بالمراجعة الدائمة، وبالاحتفاظ به، لكن لماذا؟:
1- نشأ حزب البعث نشأة متكاملة – غير كاملة – في أواخر النصف الأول من القرن الماضي في سياق تاريخ نضالي ضد قوى الاستغلال والاستبداد الداخلية والخارجية، كطليعة و(نخبة) في البداية، لكن سرعان ما انحاز إلى جماهير الكادحين، فخاضا سويّة معركة ضد التخلّف والرجعية والتجزئة والتطرف والتكفير، ومخلّفات الاستعمارين العثماني والغربي وضد الصهيونية… ولايزال البعث: نظرية وكوادر وجماهير يخوض المعركة نفسها في النصف الأول من هذا القرن، إذ: (يبدو أن المعركة مستمرة)، ذلك استلهاماً لما ختم حديثه به القائد المؤسس حافظ الأسد في حواره مع باترك سيل مؤلّف: الصراع على سورية.
2- لم يكن هذا التاريخ النضالي من حيث سيرورته منفصلاً عن سردية تشكّل أدبياته وتطورها عبر الزمن، والتي لم تزلْ غير مكتملة، نظراً إلى أن إيديولوجيته لا تعرف الجمود ولا التقوقع والانعزال، ففهم البعثيين اليوم لمنطلقات البعث النظرية (وبالأحرى بعضها) يختلف عن فهم آبائهم وأجدادهم من حيث النظرية والممارسة، لذلك يجابه الحزب اليوم مفارقة تتمثل في أن قدرته في الحفاظ على وحدته التنظيمية هي أكبر بكثير من قدرته في الحفاظ على وحدته الفكرية، ولهذا أسباب يستحق الحديث فيها أن يكون واسعاً؟!.
3- بيّنت مجريات المؤتمرات السنوية للمؤسسات البعثية ولا سيما تلك الجارية اليوم في فروع الحزب في المحافظات والجامعات أن هناك وعياً حزبياً (عفوياً) تشترك فيه الكوادر والقيادات، للفرق بين الحياة الحزبية (العقائدية) والحياة السياسية بأبعادها (الاقتصادية والاجتماعية)، هذا الوعي تحظى جرّاءه المؤسسات الحكومية بما لا تحظى به المؤسسات البعثية، مع العلم أن العلاقة بين المؤسستين في معركة اليوم عضوية، وليست جدلية على غرار ما كان في مراحل سبقت. ولهذا حافظت علاقة البعث بالسلطة – أمس واليوم وستحافظ هكذا – على إشكاليتها. وإن كانت اليوم أقل إشكالية إذ لاحظنا في أغلب هذه المؤتمرات أن البعثيين على قناعات متباينة من أن السلطة – الحكومة – لا تملك عصا سحرية – لكن هم بينهم وبين أنفسهم يقولون: عليها أن تملك هذه العصا بشكل ما… ذاك لأنهم مقتنعون أن معركة الحزب اليوم وطنية أكثر ممّا هي حزبية.
4- يرى اليوم البعثيون أن مغادرة علاقتهم التقليدية بالسلطة – والتي لايزالون يطمحون إلى استعادتها – لم تنعكس إيجاباً على أداء السلطة، بل إن هذه المغادرة أضرّت بالحزب، وبالدولة، وبالمجتمع الذي ترى أطياف منه عكس ذلك، لكن هذه الرؤية تقترن بالعجز عن تقديم بدائل مجدية، وهي عند البعض تكاد تكون نوعاً من الشماتة، والنكران أيضاً. لذلك يقول اليوم كثير من البعثيين: انظروا الآن إلى أين ذهب الشارع!!. وفي حالة السجال القائمة الآن، يردّ الآخرون: بل أنتم الذين يجب أن تنظروا، وتتحملوا المسؤولية أيضاً.
لذلك يطغى حضور (السياسية) على (الحزبية) في مؤتمرات البعث، لكنه طغيان غير مؤذٍ، والحالة هذه.
5- يبيّن الواقع الراهن أهميّة تمسك البعثيين بوحدتهم الفكرية التي كانت فيما مضى تقليداً، وعليها أن تكون اليوم ديناميَّة، فلطالما حذّروا من الغزو الثقافي، لكنهم اليوم مطالبون بالانتقال إلى مواجهة الغزو التقاني، وغزو التكنولوجيا الرقمية، وما يتصل بهذا مما توفّره وسائل التواصل الحديثة المتنوعة من تزييف وتضليل وتدمير للبُنى الوطنية الفوقية والتحتية. هذا الغزو الجديد الجارف يظن معه الكادر البعثي أن أي مكان تلمسه فيه يؤلمه، وأنه وحده الذي صار أقل منَعةً تجاه التحشيد والاستهداف. وآية ذلك مثلاً ردود الأفعال المخاتلة والمستثمرة سلباً على ما نشرته صحيفة البعث من رأي دولي حول جناية نظام أردوغان على معيشة المواطن التركي، – ردود قاصرة – تقول: يعني حال السوري أفضل من حال التركي؟؟!!.
6- أسفرت الحوارات والمقترحات والتوصيات وجلسات النقد والنقد الذاتي في مؤتمرات الفروع الجارية اليوم، وفي المؤتمرات السابقة للمؤسسات البعثية عن أن الحزب لايزال متمسكاً باقتدار بوحدته التنظيمية والفكرية، وعن أن البعثيين وجماهير حزبهم مع ظروف الواقع الصعب هم الآن أكثر إدراكاً لكون البعث حاجة وضرورة، وأكثر إيماناً بحزبهم ورموزهم ومؤسساتهم الوطنية وفي طليعتها تلاحم الجيش والشعب خلف قيادة الرفيق الأمين العام للحزب السيد الرئيس بشار الأسد، وهم يرون في هذا التلاحم وهذه القيادة أسس الصمود والتضحية، والانتصار أيضاً، لذلك ترى جماهير الشعب والحزب في نفسها القدرة الكافية على التغلب على مختلف الظروف القاسية اليوم.