عن “أوامر القتل” وإبادة الأرمن
تبقى الإبادة الجماعية للأرمن الصفحة السوداء التي لا يمكن لها أن تطوى، بل ستبقى بكل أهوالها ومآسيها شاهدة على جرائم لا تغتفر ولن تنسى، ليس، فقط، لأنها تعتمد على تصفية عرقية وفكر عنصري مستعد لإلغاء الآخر ومحوه من الوجود، بل للوحشية التي نفذت بها هذه المجزرة دون ضمير أو رادع..
أكثر من مليون ونصف مليون أرمني، قضوا في هذه الإبادة بأسلوب القتل المتعمَّد والمنهجي للسكان الأرمن، وفي مسعاها لدفن الحقيقة، نسجت تركيا سرديّة من الأحداث المزيفة، مستغلة افتقار الحقائق المرتبطة بالإبادة الجماعية إلى الوثائق والأدلة الدامغة، بعد إخفاء معظم الوثائق والشهادات في المحاكم، دون أن تترك للباحثين خياراً سوى الاعتماد على الصحف العثمانية الرسمية، والاقتصار على شهادات الأرمن فحسب، لكن ما لم تتوقعه هو ظهور الوثائق الأصلية لتكشف القصة الحقيقية بالكامل..
ضمن كتاب “أوامر القتل” الذي أحدث جدلاً كبيراً في الأوساط السياسية والفكرية، رفع المؤرخ التركي تانير أكشام، الستار عن تفاصيل الإبادة كاشفاً أسرارهاً، مثبتاً كل ما أورده بالوثائق والأدلة، فكان حريصاً على طرح الأدلة بوتيرة متلاحقة..
كشفت هذه الوثائق عن الدور الذي لعبته الحكومة العثمانية في التخطيط للقضاء على الأرمن، وأظهرت أن أوامر القتل التي وقعها وزير الداخلية العثماني آنذاك طلعت باشا صحيحة، مؤكدة مسؤولية جمعية “تركيا الفتاة” من خلال رئيسها بهاء الدين شاكر عن المذابح التي ارتكبت بحق الأرمن، عام ١٩١٥..
بدأ الأمر من مكتب في مدينة أرضروم التركية، حين أرسل المسؤول رفيع المستوى في الإمبراطورية العثمانية (شاكر) برقية سرية لأحد زملائه في الميدان، طالباً فيها تفاصيل حول عمليات ترحيل وقتل الأرمن في شرق الأناضول، الجزء الشرقي الأقصى في تركيا المعاصرة، لاحقاً، لعبت هذه الوثيقة دوراً في إدانة شاكر بالتخطيط لقتل أكثر من مليون أرمني، لكن بعدها اختفت معظم الوثائق والشهادات في المحاكم، الوثائق وجدها أكشام، بعد بحث طويل، حيث قامت الجهات الأرمنية في إسطنبول في عام ١٩٢٢، بشحن 24 صندوقاً من وثائق المحاكمات لحفظها في إنكلترا، وهناك، حُفظت من قبل أسقف نقلها لاحقاً إلى فرنسا ومنها نُقلت إلى القدس، هذه الوثائق كانت مختومة بختم عثماني ومشفرة بأرقام أربعة، وحين قارنها برموز أرشيف أيام السلطنة العثمانية وجد أنها متطابقة، وتعود الوثيقة إلى الرابع من تموز من عام ١٩١٤، وكان قد أرسلها شاكر وجاء فيها:
“هل تخلصتم من الأرمن بعد إبعادهم من هناك؟ وهل جرت تصفية الأشخاص العدائيين الذين أُبعِدوا في خضم موجة الترحيل أم أنهم هُجّروا بكل بساطة؟ أرجو أن تكون صادقاً في تقريرك”..
وكانت برقية شاكر مشفّرة بنظام مؤلف من أربعة أرقام عربية، أما عن مطابقتها فتمت من خلال وثائق حصل عليها أكشام عام ٢٠١٦ من وزارة الداخلية التركية حين كان لا يزال بإمكانه زيارة تركيا.
الملفت هنا أن مؤلف “أوامر بالقتل” الذي يثبت التورط التركي بالإبادة ليس أرمنياً، بل هو مواطن تركي، أراد الحقيقة وبحث عنها لينسف الرواية التركية برمتها.
السياسة العثمانية القائمة على القتل والاستبداد والعنصرية تعيد نفسها؛ من خلال نظام أردوغاني يواصل ارتكاب المجازر في سورية والعراق وليبيا وغيرها، عن طريق تحالفه مع ميليشياته الإرهابية، مستغلاً الضعف العربي من أجل استعادة الحلم القديم الجديد القائم على التوسع التركي في المنطقة، وإن كان ذلك على حساب البشر والحجر، هي السياسة العثمانية الجديدة التي تتبنى وحشية الماضي فتتعمد تجاهل الإبادة وتصرّ على إنكارها، فتُصوّرها وكأنها مجرّد فوضى نجمت عن حالة حرب، إنكار يخفي وراءه الهلع التركي من أن يتبع الاعتراف بالإبادة اعتراف من نوع آخر يتعلق بحقوق الأرمن في تركيا ومن ثم المطالبة بالأرض وبتعويضات مستقبلية ..
اليوم، وبعد مرور أكثر من مئة وستة أعوام على الإبادة، لن يكون الاعتراف بها من قبل النظام التركي حقاً من حقوق الأرمن فحسب، بل هو حق للإنسانية في كل مكان وزمان، ورغم أن هذا الاعتراف لن يشفي الجرح المفتوح لشعب بأكمله، إلا أنه يشكل، بأبعاده، خطوة في طريق البحث عن الحق الذي يجب ألا يسقط بالتقادم، كما يمثّل، أسلوب ردع يضمن، إلى حد ما، عدم تكرار ما حصل راهناً ومستقبلاً.
هديل فيزو