إشكاليات تدريسية وفجوة تربوية تستوجب إعادة هيكلة جديدة للنظام التعليمي
لم تستطع كثرة الاجتماعات والورشات واللقاءات بين وزارة التربية والمختصين بكلية التربية ردم الفجوة الحاصلة نتيجة إصرار كلية التربية على تدريس المنهج السلوكي، في الوقت الذي ربطت وزارة التربية التعلم في المناهج الحديثة باكتشاف المهارات وتمكين المتعلم من تحقيق متطلبات المجتمع ومواكبة التطور العلمي وفق قدراته ومهاراته، لكن هذا التطوير شابته أمور كثيرة، أهمها اصطدام التطوير بعقلية المدرس الذي يصر على التلقين والحفظ وعدم تطبيق أسس التعلم الحديث، لاسيما أن مخرجات الكلية اعتادت على منهج التلقين والحفظ، إضافة إلى غياب الرغبة عند البعض في مواكبة التطور العلمي، وما زاد الطين بلة، هناك من فهم تطوير المنهاج على طريقته.
محاولة ترميم
وزارة التربية من أجل تفادي الثغرات وترميم الفجوة كثفت اجتماعاتها مع المعنيين في وزارة التعليم العالي لتركز تلك الاجتماعات على “تعزيز التشاركية بما يساهم في تعزيز المخرجات، وإقامة برامج تدريب مشتركة، وإقامة دورات والاستفادة من رسائل الماجستير والدكتوراه لكليات التربية في خدمة العملية التربوية، وتسهيل دخول طلاب الكليات إلى المدارس والروضات لتطبيق الجانب العملي .
ومع تأكيد وزير التربية الدكتور دارم طباع على تخصيص 15 مليون ليرة للبحث العلمي، يكشف وزير التعليم العالي الدكتور بسام إبراهيم عن مشروع لدراسة الخطط الدراسية لكليات التربية بدقة، بما ينعكس إيجاباً على الخريجين وفي المدارس التربوية، ولاسيما في حلقات التعليم الأساسي.
ولم تأت عميدة كلية التربية في جامعة دمشق الدكتورة زينب زيود، خلال اللقاء التشاوري مع وزارة التربية بجديد، عندما أكدت أهمية اللقاءات المستمرة مع وزارة التربية التي تمثل خطوة نوعية في التشاركية بين كليات التربية والوزارة بهدف استثمار مخرجات الكلية من البحوث العلمية والدراسات التجريبية والميدانية في المجالات التربوية والنفسية.
ولم تخف زيود وجود حلقة مفقودة بخصوص تفعيل الاستفادة والاستثمار في المخرجات البحثية لكليات التربية من الجهات المستفيدة بشكل عام.
اعتراف بالفجوة
ومع الاعتراف بوجود فجوة وحلقة مفقودة، تصدح أصوات عالية في الوسط التربوي، مؤكدةً أن هناك خللاً تعاني منه مؤسساتنا التربوية في سورية، لتوضح المدرسة في كلية التربية الدكتورة نسرين موشلي أننا كتربويين ومسؤولين على هذا القطاع ومشاركين فيه لا نستطيع أن نصم آذاننا ونغمض أعيننا عن هذه الإشكاليات، مشيرة إلى أن القطاع التعليمي كغيره من القطاعات الأخرى يعاني بسبب الأزمة التي تمر بها البلاد، وكون مخرجات قطاع التعليم تعدّ رأس المال البشري في المجتمع، من اللزوم علينا أن نقف على هذه الإشكاليات للعمل على توضيحها وحلها وفق الإمكانيات المتوفرة.
افتقار المناهج
ولم تكن الفجوة بين وزارة التربية والكلية إشكالية وحيدة، بل هناك إشكاليات في النظام المدرسي المعاصر، وخاصة الأنشطة اللاصفية، حيث إن الظروف الراهنة تقف حائلاً دون القدرة على تحقيق وتنفيذ هذه الأنشطة في المدارس الحكومية بسبب نقص الإمكانيات، إضافة إلى افتقار المناهج عموماً لهذه الأنشطة، لاسيما أن مدارسنا لم تصمم لتنفيذ هذه الأنشطة ولم تزود بالوسائل المناسبة والتجهيزات الداعمة لتطبيقها، حسب كلام الدكتورة موشلي، التي اعتبرت أن بعض المعلمين لا يطبقونها نظراً لعدم وجود الإمكانيات أو عدم رغبتهم بذلك أو لضيق الوقت في الحصص الدراسية، ما جعل المنهاج المقدم للطلبة جافاً ومجرداً، ولا يسهم بالتفاعل مع الوسط المحيط، وأصبح الطالب يستطيع الحصول على أنشطة من خلال مؤسسات خاصة أكثر من حصوله عليها من جهة تربوية معتمدة، وفق موشلي .
إلا أن مدير مركز تطوير المناهج في وزارة التربية، الدكتورة ناديا الغزولي، اعتبرت أن النظام التربوي المعاصر جعل للأنشطة اللاصفية جزءاً جيداً من خطة التعليم، لأن هذه الأنشطة تساعد بشكل كبير المتعلم على التمكن من المادة العلمية وتعزز لديه المهارات.
توفر المقومات
في الوقت الذي لفتت الخبيرة التربوية راغدة محمود إلى أن الأنشطة اللاصفية جيدة عند توفر عوامل نجاحها والبيئة المناسبة، وخاصة أن الأنشطة اللاصفية مطلوبة في شعب تتجاوز 4٠ طالباً، وساحات مدرسية مكشوفة، الحر صيفاً والمطر شتاءً، إضافة إلى أنّ بعض المدرسين والمعلمين توجهوا لطرائق تدريس أصبحت مملة ولا تتناسب مع أبعاد المكان وعدد الطلاب، داعية إلى ضرورة زيادة عدد المدارس والعمل على استثمار قاعات للأنشطة اللاصفية ومخابر وقاعات للمطالعة مع الاهتمام بجوهر البناء المدرسي والابتعاد عن التجميل الخارجي للمدارس في حين تفتقر تلك المدارس لأدنى الخدمات ما يؤثر سلباً على تطبيق الأنشطة اللاصفية.
الاستثمار الأمثل
وشددت الدكتورة موشلي على أهمية استثمار الأنشطة اللاصفية بالشكل الصحيح والأمثل كونه من الجوانب التي يقوم عليها النظام المدرسي الحالي لبناء المتعلم فكرياً وجسدياً وعاطفياً. وتعدّ الأنشطة اللاصفية – التي تركز على المنهاج كوسيلة وليس كغاية – هي الأداة الداعمة للمنهاج والأنشطة المدرسية التي تزود الطلبة بالثقافة العامة وتطور قيمهم واتجاهاتهم وميولهم ومهاراتهم وأساليب تفكيرهم وتساعدهم في معالجة وحل مشكلاتهم.
ومن هنا ترى الدكتورة موشلي أن غياب التطبيق الصحيح للأنشطة اللاصفية في المدارس الحكومية دفع بالكثير من الأهل للتوجه نحو المدارس الخاصة نظراً لاعتمادها على الأنشطة الجذابة والداعمة للمنهاج أكثر من المدارس الحكومية، محملة وزارة التربية مسؤولية العمل الجاد لإيجاد حل إسعافي ضمن الإمكانيات المتاحة، وإلا سيتحول التعليم العام إلى مجرد تلقين وينعزل عن مجاراة التغيرات المعرفية العالمية.
تفوق الخاص
ويعتبر متابعون ومختصون بالشأن التربوي أن المدارس الخاصة تفوقت على المدارس الحكومية التي عجزت عن مجاراتها، على الرغم من أن التعليم حظي على مر السنوات بالاهتمام والرعاية حيث كفل الدستور السوري حق التعليم لكل مواطن بشكل إلزامي ومجاني في مراحل التعليم الأساسي، إلا أن الزيادة السكانية والتطورات التربوية العالمية وعدم قدرة المدارس الحكومية العامة بإمكانياتها القليلة على مجاراة التغيرات التربوية، فرض ظهور مدارس خاصة إلى جانب المدارس الحكومية العامة، حسب تأكيدات الدكتورة موشلي التي أشارت إلى انتشار المدارس الخاصة بشكل كبير في جميع المحافظات ولكافة المراحل الدراسية (رياض أطفال، تعليم أساسي)، وازداد الطلب عليها بشكل ملحوظ، نظراً للامتيازات التي تقدمها مقارنة بالمدارس الحكومية العامة، من حيث البناء والتجهيزات والتقنيات الحديثة (وسائل التعليم) وطول ساعات الدوام بما يناسب الأمهات العاملات وتوفر النقل…إلخ.
الأمر الذي انعكس سلباً على رضا الأهل عن التعليم في المدارس الحكومية العامة، وأدى لحصول شرخ بين المدارس العامة والخاصة التي تقدم امتيازات لا تستطيع المدارس الأخرى تقديمها، وبات حل هذا الإشكال من أولويات وزارة التربية، فليس الجميع لديهم القدرة على تحمل أقساط المدارس الخاصة، واستمرارية هذا قد يؤدي لخسارة قطاع التعليم العام هيبته والقبول المجتمعي، وفق الدكتورة موشلي.
مبالغ فيه
رأي الدكتورة موشلي اعتبرته الدكتورة الغزولي مبالغاً فيه، وخاصة أن العديد من المدارس العامة استطاعت أن تثبت وجودها بكادرها التعليمي والإداري، والدليل على ذلك أن من يتقدم للشهادات العامة ليس كله من طلاب المدارس الخاصة، مؤيدة كلامها بأن من حصل على المراتب الأولى العام الماضي كانوا من مدارس المتفوقين والمدارس العامة، وكانت أعدادهم توازي بل تفوق أعداد طلاب المدارس الخاصة، مؤكدة أن المدارس الخاصة شريك في النظام التربوي وليست ضده، تفوقها يعود إيجاباً على الجميع.
اهتمام بالقشور
وفي قضية التفاضل بين الخاص والحكومي، يطالعنا خبراء تربويون بأن طلاب المدارس الخاصة أكثر حاجة للدروس الخصوصية من طلاب المدارس العامة، مهما كانت المدرسة الخاصة حديثة ولها سمعتها، بل ويتناسب الأمر طرداً مع حاجة طلابها للدروس الخصوصية.
هذا الرأي، وفي استبيان من أرض الواقع، أظهرت النسب دقة ما ذكر، لاسيما أن طلاب المدارس الخاصة يبحثون عن مدرسين للدروس الخاصة لأنّ هذه المدارس اهتمت بالقشور، المسابح الملاعب المسرح والفرق الفنية الترفيه والرحلات، ولم تبحث عن كيفية تطوير التعليم حسب رأي الخبيرة محمود التي اعتبرت أن الطالب في المدارس الخاصة يتحدث عن الأنشطة اللاصفية بعيداً عن جوهر التعليم وربطه بسوق العمل والتخصصات التي يحتاجها المجتمع.
خلل اجتماعي
أما الدكتورة موشلي أوضحت أن ظاهرة الدروس الخصوصية سواء في المدارس العامة أم الخاصة، هي إشكالية في النظام التعليمي، لاسيما في الخاصة منها، حيث باتت الدروس الخصوصية كنوع من الموضة المجتمعية، والتي تتنافس فيها العائلات الثرية لإثبات الوجود من باب ما يسمى بالعامية “البروظة”، إذ من العيب عدم تكليف معلم أو مدرس متخصص لمتابعة دروس الأبناء في المنزل.
وبحسب الدكتورة موشلي، فإن مثل هذه الظاهرة تسبب خللاً اجتماعياً تربوياً، يبدأ من المدرسة حيث يقصر المعلم بتقديم المعلومات بشكل كامل وهو ما يستدعي طلبه للمنزل لتقديم وإعادة هذه الدروس، ومروراً بعدم قدرة جميع الأهالي على وضع معلم لجميع أبنائهم، وصولاً إلى خسارة بعض الطلبة للكثير من المعلومات لعدم قدرتهم على تكليف معلم خصوصي.
ودعت موشلي وزارة التربية إلى التشدد بقمع هذه الظاهرة للحد من الهدر التربوي الحاصل، وفرض عقوبات على المعلمين العاملين في المدارس الخاصة للحد من هذه الظاهرة اللاتربوية.
التغيرات المعرفية
ومع تلك الإشكاليات المطروحة ومن خلال الإضاءة ولو بشكل بسيط على ما سبق تجد الدكتورة موشلي وتوافقها الخبيرة محمود بأن نظامنا التربوي التعليمي يحتاج إلى إعادة هيكلة جديدة، تشمل إعداد المناهج بما يتناسب مع التغيرات المعرفية العالمية واحتياجات سوق العمل المحلي؛ وإعداد المعلم ورفده بمهارات متجددة بما يخص التدريس وطرائقه؛ وإعادة تجهيز المدارس بما يتناسب مع التطورات التكنولوجية؛ ورسم قوانين ضابطة للعملية التعليمية.
عقول مبدعة
وتؤكد الخبيرة محمود أن طرائق التعليم في بلادنا تحتاج لعقولٍ مبدعة تضع الخطط المستقبلية، في سنوات الحصار والحرب أعداد المبدعين نعدهم على أصابع اليدين، سورية في ظلام، لا كهرباء، وجامعاتها تخرج آلاف المهندسين، لم نستطع استثمار طاقتنا الحيويّة والوصول لنوع من الاكتفاء الذاتي، مازلنا نركز على الحفظ ومصادر التعليم، الكتب المدرسيّة مجموعة من مصادر متنوعة لا قيمة لها في الحياة التطبيقية التي تعود بالفائدة المادية النفعية على الفرد والمجتمع.
التعميم الخاطئ
وتوقفت الدكتورة الغزولي عند الحديث عن وجود أمور منهجية غير صحيحة بطرائق التربية والتعليم في سورية، معتبرة أن الإشكالات السابقة لا تفرز هذه النتيجة كون تلك الإشكاليات موجودة في كل زمان ومكان وفي أي دولة أخرى.
وبينت الغزولي أن المشكلة دائماً في التعميم الخاطئ، وخاصة أن النظام التربوي حريص كل الحرص على مواكبة المستجدات العالمية من طرائق تدريس وأساليب تربوية متطورة، لكن عدم مواكبة بعض زملائنا لذلك لا يعني أن المنهجية غير صحيحة.
ولفتت الغزولي إلى أن المركز تفادى هكذا أمر من خلال وضع وثيقة الإطار العام التي تحدد الرؤية والقيم والأهداف العامة للمناهج، أي الإجابة على سؤال إلى أين نريد أن نصل؟ وما هي صفات الخريج من مدارس الجمهورية العربية السورية.
علي حسون