روح العصر وتكنولوجيا التزوير
تمّام علي بركات
غالبا ما يجد المفكر نفسه منجذبا وتحت ثقل ضغط معنوي محسوس ومدرك، إلى ما يسمى بـ “روح العصر”، وهذا الضغط المعنوي وما يرمي إليه المعنى، وما تمارسه الأحداث والأفكار المحيطة من تأثيرات، وما تولده من انفعالات، وما تُحدثه من ردود فعل في داخله أولا قبل أن يعمل على وضعها في سياقات –حسب آلية تفكيره بها-ومن ثم تصديرها للرأي العام، إن كان على شكل عمل أدبي، أو قراءة نقدية تحليلية بأنواعها، أو عمل فني، وغيره، ويمكن توصيف علاقة المفكر عموما بـ “روح العصر”، بأنها علاقة المفكر بمحيطه، وقلما استطاع أن يفلت مفكر ما من هذا التأثير الشرطي، فالتاريخ وبشكل عام لم يشهد حركات فكرية ذات أهمية، إلا داخل المجتمعات التي كانت تحيا حركية حضارية شاملة، متعددة الأوجه، فالفكر ليس سوى مظهر من مظاهر الحياة، تلك التي تعيش ذاتها وتخبر ذاتها، ثم تفصح عن ذاتها من خلال التجريد اللغوي، ومن ثم من خلال الفنون التي كانت هي الشكل الأول للتعبير، كفن الإيماء، والذي يُعتبر الأساس التجريدي لفن التمثيل.
إلا ان الانجذاب لروح العصر لم يكن يعنِ عند معظم أهل الفكر والفن، الانسياق التام لمفردات العصر والوقوع الحرّ تحت سلطانها وسطوتها، وهم وإن كانوا وظفوا تلك المفردات في نتاجهم الفكري/الأدبي/الفني، وصدّروا من خلالها قراءتهم لطبيعة هذه الروح وماهيتها، فإنهم لم تنساق ذائقتهم وتحليلهم وما خلصوا إليه من نتائج، وراء ما تريد أن تفرض، بل ذهبوا لقول هم ما يريدون، وهنا يكمن الفرق بين المبدع، والمقلد، بين المفكر والثرثار، فإذا اعتبرنا –كما كان يُعتبر- المفكر والأديب والفنان، هم لسان حال الجمهور/ الناس، وفيهم يصب ما انتجوه من أفكار ورؤى وفنون، ودونهم لا معنى لكل هذا النتاج، فهذا يعني أن الحركة الطردية لتطور الشعوب، ترتبط ارتباطا عضويا بناتج العلاقة الكامنة بين الطرفين، وهذا ما أكدته وتؤكده حركة التاريخ، ذاك أن الجمهور هو الشاشة اللامعة التي تعرض ما انعكس عليها من هذه الأفكار والرؤى والفنون.
واليوم ما من شأن بمقدورنا أن نستدل منه على ناتج هذه العلاقة مثل الفنون، فهي وإن اختلفنا على مستواها، الحامل الأكثر شعبية لدى الجمهور، والأكثر إقبالا من الناس على استهلاك ما تنتجه وسائطها المختلفة، وهنا تظهر واحدة من أكثر المشاكل تعقيدا، والتي تتداخل بها جميع أطراف المعادلة، مفكر-فنان/روح العصر/الناس/ فما نراه من فنون في المجتمعات العربية اليوم عموما، -عدا عن تلك الموصوفة ظلما بالفلكلورية والتي تُعامل وكأنها من بقايا الماضي- بالضرورة يجب أن تدل على كل أطراف المعادلة، فمن ينتجها ومن يستهلكها ومن يحملها يشتركون في تبيان قيمتها، وعليه يكون لمعان نجمها وانتشارها هو المؤشر على جودتها، هذا حسب المنطق، ولكن هل هذا صحيح؟
تكنولوجيا الاتصالات المتقدمة الموجودة اليوم، بمختلف وسائلها، تساهم بشكل كبير في تزوير القيمة، فهي تربطها بالكثرة، بالعدد، وهذا الربط ليس بريئا، ذاك أن تلك التكنلوجية، والتي هي من أهم مفردات –روح العصر-ليست عادلة في الحساب، ليست عادلة في التصدير، وليست عادلة أيضا في العرض؛ اليوم مقطع فيديو منشور لفتاة تستعرض محاسنها من خلال رقصة ربما أمام الكاميرا، نجد عليه عشرات الملايين من المشاهدات والتفاعلات، في حين لن نجد على فيديو لأهم مفكر/ فنان، يقوم بتقديم محتوى فكري أو فني راق وبعيد عن الابتذال بكل أشكاله، ما يتجاوز المئات من المشاهدات والتفاعلات، رغم أن ما يقدمه، يحمل بطبيعته روح العصر، لكنها مطوعة لصالح نتاجه، لا هي من يطغى عليه، ولهذا السبب تحديدا لن يحقق انتشارا، في تواطؤ غير معلن لكنه معلوم، بين المنصات المتحكمة بالعرض، وبين ما يسمى ب: “الجمهور الافتراضي” ومن التسمية وحدها، يمكن الاستدلال على ما تم العمل عليه من تهميش وتغييب للجمهور، مقابل تظهير وانتشار الحشود، والفرق هائل بين الجمهور والحشود، فالجمهور تحركه نوازعه الفكرية والحسية، بينما الحشود يحركها ما يتعامل معها على أنها “قطعان!” منذ بضعة أيام اكتسح فيديو لأغنية “تافهة” بلا أي معنى، ولا يوجد فيها لا على مستوى اللحن أو الكلمات أو حتى الأداء، مواقع التواصل الاجتماعي بمختلف منصاتها، وبأرقام مهولة من المشاهدين أو “الفانز” حسب واحدة من مفردات روح العصر في التعبير عن المعجبين، رغم أن صاحبها تسبب في مقتل إنسان، وكان قد تسبب سابقا في طرده من عمله، وأنكر عليه حقه الذي أعطاه إياه القضاء، لكن هذا -كما يُراد له-لم يؤثر في مشاعر معجبيه ومتابعيه الذين بعشرات الملايين!
يمكن أيضا النظر لحال الثيمة الأشهر دراميا اليوم في عالم الدراما العربية، ثيمة اللص، المجرم، البطل، أكثر الأعمال الدرامية متابعة خلال السنون العشر الأخيرة، هي المسلسلات التي صدّرت صورة البطل/الخارج عن القانون، مهرب السلاح والمخدرات، وهي ثيمة حملتها الكثير من الأفلام الغربية المصنوعة بغرض “التكريس” مثل سلسلة “رامبو”، إنها اليوم مكرسة بين الحشود لا الجمهور، ولم تعد الناحية الأخلاقية للبطل تهم، طالما أنه وسيم ومعه حسناء لا شغل لها إلا أن تكون المولهة به، وهكذا أصبحت الجريمة مبررة في عالم اليوم وروح العصر، بل ومرغوبة، ومن لا يصدق عليه أن يرى الأعداد المهولة من المؤمنين بهذا، “فانزات” هذا “النجم” أو ذاك.
الموضوع في الواقع تنطعت للخوض فيه العديد من الأبحاث الاجتماعية والفكرية، وهو يحتاج للمزيد من الجهود في تبيان حقيقته وما تشاكل منه للجمهور، الجمهور الذي يُراد له وحسب المزعوم من مفردات روح العصر ومنتجيها، أن يكون “قطيعا” لا رأي له، بل يُساق سوقا لما يجب عليه أن يحبه ويساهم في نشره!