النظام السياسي وسؤال الهوية والوعي
د. عبد اللطيف عمران
أثارت أحداث العقد الثاني من الألفية الثالثة إشكالات متباينة حول مصطلح (النظام السياسي) وألقت به في مجاهل المفاهيم، ومضُطرب الممارسة، فاستٌخدم استخداماً وظيفياً محضاً بعيداً عن المصطلح المستقر والمتفق عليه، فصار في الفضاء الإعلامي هباءً، ونأى بنفسه عن الأفق المعرفي أو السياسي.
وعلى أية حال، فمصطلح (النظام السياسي) ومفهومه يتطوران حسب وظائفه ، وخصائصه، وقدراته، ومقاصده، أيضاً، وهو في الإطار العام: تآلف نسق من الحكومات والأحزاب والمؤسسات الرسمية الفاعلة في البنية القانونية والدستورية والاجتماعية في الدولة. ولا شك في وجود تعريفات أخرى متنوعة ومتعددة، ومتباينة أيضاً.
ولعل كتاب فوكوياما (النظام السياسي والانحطاط السياسي)، أهم دليل على ذلك، وهو من أبرز المؤلفات في هذا الميدان إن لم يكن أهم، ويناقش فيه الفيلسوف والاستراتيجي الأمريكي – ياباني الأصل- واقع النظم السياسية من الثورة الفرنسية إلى ما دعي بـ (الربيع العربي) مروراً بالاختلالات العميقة في السياسة الأمريكية المعاصرة، مندداً بـ (الشلل السياسي) الراسخ في الغرب، وقارئ طرح فوكوياما في هذا الكتاب – الصادر قبل خمس سنوات – يستغرب أن يكون هو نفسه صاحب طرح (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) قبل ثلاثة عقود، ما يؤكد أن السياسة في الغرب لم تعد علماً، ولا أخلاقاً، وإنما براغماتية وذرائعية محضة، وفي هذا السياق نأت الثقافة الوطنية والعروبية بنفسها عن الخوض في هذا الميدان بسبب توظيفه السلبي ضد منظوماتها ومكوناتها، وبسبب اعتبار منظوماتها نظاماً سياسياً لا شعبية ولا جماهيرية تسنده أو هو يستند إليها.
وها نحن نكاد نكون أمام فهم مستقر ومقلق على أننا نظم سياسية عابرة، لا مشروع أصيلاً عتيداً كان – ولا يزال – أمام أجيالنا المتعاقبة، إنه المشروع – الفكر- القومي العربي الذي يواجه اليوم تحدياً غير مسبوق مع المشروع الصهيوني، مشروعان قوميان متضادان، الأول: يتعثر – يحُارب- تدمير حوامله، الثاني: ينمو- يدُعم- يتم إحياء حوامله. ويأتي الآن التطبيع (العربي) ليكسب المشروع الصهيوني شرعية قائمة على الوعد والوعيد، على الإذلال والتهديد، على الصفح عن الجرائم وقبولها، ويكفي أن ننظر إلى تضاد مفهوم (الآخر) إنسانياً في كلا المشروعين اللذين لن يتعايشا أبداً، (وإن تقدّم الصهيوني بسبب ضعف العربي، وتطور الآن إلى دعم العربي) من بعض النظم السياسية العربية التي لم يعد يقلقها شيء إلّا ثقافة المقاومة ونهجها.
يقبل الغرب اليوم – وبعض العرب – أن يستند المشروع الصهيوني على عاملي القومية والدين، فتكون بهذا اليهودية ديناً قومياً، ولا يقبل هؤلاء أن يستند مشروعنا القومي على الآفق الحضاري للعروبة والإسلام، ويساعدهم كثيرون ممن (لا يفهمون جوهر الدين، وإنما تاريخ الدين) و (يعمدون إلى تطييف الاضطرابات الشعبية) متجاهلين أن (فكرة الصمود فكرة اجتماعية – شعبية – قبل أن تكون فكرة رسمية – للدولة -) في الوقت الذي نتيّقن فيه من أن (الجسد- المؤسسة – الديني له دور أساسي في نشأة جيل واعد من الشباب الديني الذي يسير بالمجتمع نحو الاعتدال بعيداً عن التطرف) الذي يستند من بعض ما يستند إليه إلى أننا (نحن كعرب نعيش أحياناً كثيرة في الماضي، كل شيء فينا يحكمه الماضي)… وصار واضحاً الآن أن هناك شيئين يدمران الإنسان الأول: الإسراف في حديث الماضي، والثاني: الإسراف في الحديث عن الناس.
إذاً، لم يعد هناك من خوف أمام الحديث عن تبني نظام سياسي جماهيري للمشروع القومي العربي بأفقه الإسلامي الحضاري، فالنظام السياسي في سورية يتبنّى هذا المشروع ليس منذ سنوات، بل منذ عقود، وأكثر أيضاً، فهو عريق شعبياً ورسمياً في مقاومة الاحتلال العثماني والغربي والصهيوني، عريق عروبياً وإسلامياً ليس فقط منذ ألقى ميشيل عفلق محاضرته في ذكر مولد الرسول العربي (ص) على مدرج جامعة دمشق عام 1943 والتي، أتت في سياق قبول شعبي قبل الحزبي، بل من قبل ذلك ومن بعده، إلى يوم الناس هذا، وإلى أن يشاء الله، فلا تفريط ولا تهاون مع الاحتلال والإرهاب والتطرف والتكفير والتطييف، هذا مالم – ولن- يقبله الشعب ولا الدولة، ولا النظام السياسي -إن شئت-
فنظامنا السياسي هو شعبنا، هو دولتنا الوطنية، هو أمتنا العربية، هو قيمنا ومصالحنا، مقترن ذلك كله بسؤال الهوية والوعي، وبالجواب الحاضر والمنشود بين الأجيال عن هذا السؤال الذي لن تستطيع قطعان أو مجاميع أو (ثيران) التطرف والتكفير المأجورة تشويه الإجابة عنه، والاستجابة إليه بـ (تعزيز فكرة القومية العربية لمواجهة التيارات التي تروّج لفقدان الانتماء والهوية) كما أوضح السيد الرئيس بشار الأسد أمس في حواره مع أعضاء المكتب الدائم لاتحاد المحامين العربي، في معرض حديثه عن الوعي والانتماء والهوية كضرورة فـ (بدون الهوية والانتماء تصبح فكرة القومية إيديولوجيا فارغة).
وكان من الأهمية بمكان حديث سيادته عن دور المنظمات الشعبية والنقابات المهنية في هذا السياق، في وقت نرى أن هذا الدور مضافاً إليه دور والمؤسسات الثقافية والتربوية كان أقلّ منعة من المطلوب، وإن كان الاستهداف ضارياً. ذلك كي لا نتعرض كل فترة من الزمن على غرار: 1964- 1980- 2011 إلى هكذا فِتن ومحن.. والحديث طويل وذو شجون.