عَيّن خير يا جار
بمنتهى الرقي والمودة، ينظر إليّ جاري “الستينيّ” المتقاعد من السلك التربوي منذ مدة قريبة، يرمي السلام بكامل الود الخالص والألفة، فهو يعتبر أنني وكوني أعمل في ميدان “السلطة الرابعة” أنني أستطيع أن أحل كل مشاكله، والتي هي مشاكل معظم السوريين، وذلك لإيمانه بأن كتابة مادة صحفية عن الأوضاع المعيشية “الجحيمية” التي يحيياها ومجتمعه بمن فيهم جاره –أنا طبعا- ستتغير ما أن تصل الشكوى لمن يعنيهم الأمر، وكان هذا الحال قد مرّ عليه أكثر من ثلاث سنوات، لم يمل يوميا أن يستوقفني ليسألني عن المقال وهل نزل في عدد اليوم ليراه أصحاب الهمة من الشرفاء، ليتفاعلوا معه كما يُفترض أن يكون؟ وبعد خيبة أمله من جوابي الذي صرت اتحاشاه تارة بكوني على عجلة من أمري، وتارة أخرى بأن أقوم بتغيير الطريق كي لا أصدفه، “ينط” لي من بين أسناني ويقول: “الحق عليكم يا أستاذ، أنتم لا توصلون وجع الناس للجهات المعنية، فهي عندما تسمع بمشكلة من مشاكل المجتمع، كأنين مئات الأطفال النيام في العراء فإنهم سو..،”، ولم يكد يكمل كلمة سوف، حتى استوقفته بأدب جم لا تخفى علامات خيبته على سحنتي الكالحة لأجيبه قائلا: بالتأكيد أنها تهرع أي هذه الجهات، فورا، لحل هذه المشكلة الوطنية التي تقضم كالماء المتلاطم ضفاف النهر وتأكله حرفيا، تهرع فورا للعمل على الحل، وتتفق “عبقريتهم” عن إقامة مهرجان مسرحي أو سينمائي أو ثقافي للطفلّ، واكتشاف المواهب المبدعة منهم، مسابقات في الذكاء لأطفال أصحاء البنية، حمر الخدود، لم يعرفوا يوما –وأتمنى من كل قلبي أن لا يعرفوا ابدا- ماذا يعني أن يكون طفلا يعاني أهله المر والذل لإطعامه وأخوته ما يسد رمقهم، بغض النظر عن نوعية الطعام، التي تتفنن شاشاتنا في إظهاره وكأنه في متناول اليد وللجميع، ويستضيفون أهل علم وباع طويل ومراس “ماكن” بالتغذية، ليخبروا الناس بالابتسامة “الهوليودية” المرتسمة دائما على وجوههم، عن ضرورة أن يأكل الأطفال السمك أكثر من مرة في الأسبوع! عدا عن أنواع الفواكه الهامة في بناء أجسادهم الغضة من الأفوكادو إلى الكيوي والمانغا، اللحوم بأنواعها، ستيك، فيليه، سيموفيميه، خصوصا وأن العقل السليم في الجسم السليم؛ -في أي كوكب يحييا هؤلاء- المهم أن الجهات المعنية تصرفت فورا تجاه هذه الحال الصعبة، و قامت بإجراء عدة خطوات مهمة حقيقة كما قلنا، مهرجانات بأنواعها لحل أزمة ( أطفال الأرصفة)، المعرضون لأخطار جمة ومعاناة لا تحتملها غضاضتهم، سيكون انعكاسها في المستقبل القريب، بحاجة لمعجزة إلهية كي توقف تضخمها، من أمراض نفسية وعضوية، عقد نقص مركبة مُشكلة، لا تستطيع حتى مناقشة المصاب فيها بما يمكن أن يُقدم عليه من إجرام قد يقوم فيه ليأكل، فلقد مرّت عليه الأهوال كلها وهو طفل، وما من جديد عليه، هذا عدا الوعي الذي اكتسبه من النوم فوق الأرصفة والتسكع في الشوارع ليل نهار، دون أي هدف إلا أن يمر يوما آخر عليه وهو ومن مثله في هذا الحال، أحياء رغم كثرة الموت.
أفكر في حال “كمشني” جاري المتفائل متلبسا وأنا أحاول أن أتوارى عن أنظاره بكمامة، ماذا سأقول له عن هذا المقال المصيري، وعن الكيفية التي هب بها “النشامى” عندما عرفوا أخيرا حجم تلك المأساة بعد أن صدفوا المقال، ليضعوا خطة متشعبة تتناول هذه المعضلة بل المصيبة الإنسانية التي تخجل منها حتى حجارة البلاد! الجماعة على قلب واحد، والاختلاف يكمن فقط في زمن الخطة، هل هي خمسية، عشرية، دهرية؟ لا أحد يعلم، لكن عسى خيرا، “عَيّن خير” يا جار ونم أو مت مطمئنا، فمشاكلنا جميعا ستنتهي عند كتابة المقال الذي لم نكتبه إلا مئات المرات فقط!
تمّام علي بركات