ثقافة وفن

صانع ذاكرة

 

ما منحه سرّه في زمن الحنين للأسرار، ليست رؤيته للحياة وقدرته على تجسيدها بمشهديّة تؤثّر وتعلّم، وليس ذلك الثّراء البصري والفكري الذي تبدّى في حضور إبداع اكتسب مع مرور الوقت صفة الديمومة ليبقى حاضراً في كل زمان، ليس هذا فحسب، بل قدرته على تأسيس ذاكرة كاملة، شريط لامتناه من الصور والأحداث والتفاصيل، تداخلت في جزئيات حياتنا لتنسج فسيفساء ذاكرة برّاقة ارتبطت بزمانها، لكنها حفرت  في الوجدان، لترافقنا وتستدعي صانعها، على الدوام، ومازالت تلحّ، وتستنكر الفراغ الذي تركه وسيتركه الرحيل.

غاب حاتم علي، لكنّه أسّس لذاكرة لا تغيب، مع كل عمل يُعاد عرضه هناك عالَم بأسره يسترجعنا ونسترجعه، تبقى أعماله التي وهبها من نفسه تهبنا مراحل لها خصوصيتها في كل وقت، أصرّ فيها على صناعة قوة مؤثرة بصورة مختلفة كسر فيها النمطية السائدة ومنح فسحة حقيقية للقاء مع الحياة والذات تاق فيها للتجدد والاختلاف، ليستمر، وحتى لحظاته الأخيرة، باحثاً بشغف لا ينتهي عن كل نوعي غير مطروق، مرتجياً سبلاً لإيصال رسائل الحياة والإنسان من خلال خلق شخوص من لحم ودم تشبهنا وتعبر عنا وتحاكينا بأخطائنا وصوابنا وضعفنا وقوتنا..

صاحب “التّغريبة الفلسطينيّة”، الذي وثّق لذاكرة قضية وطن بعمل مؤثّر، وضعنا أمام أحلامنا التي قد تخذلنا ونخذلها في “أحلام كبيرة”، تفرّد في أخذنا إلى عالم جديد من الدراما الشعبية، عبر تقديم قصة “الزير سالم”، عبرنا معه فصول الحياة بحلوها ومرها ومراحلها وبكل تقلباتها في “الفصول الأربعة”، جعلنا في مواجهة مباشرة مع الإنسان بطبائعه وعثراته ليبحث عميقاً في المشاعر الإنسانية في “الغفران”، وباحترافه المعهود رحل بنا عبر التاريخ من خلال “عمر”، خلق عالماً بأكمله يحمل بصمته، يحتويه ويحتوينا من خلال عشرات الأعمال التي يلجأ إليه كل باحث عن مساحة للنبض والحياة والواقع.

رغم الإجماع على قدرته، كان حاتم غير راض عما يقدمه، يروي المقربون منه أنه بقي يعيش حالة من القلق حيال أي عمل يخرج للنور، كان ناقداً قاسياً على نفسه، مسؤوليته تجاه الحياة والناس ومحبته لهم وبأنهم يستحقون الأفضل، جعلته في بحث دائم عما يرضيهم..

 ترى لو رأى حاتم المحبة التي تجسّدت حقيقة واضحة حين غاب، وكم الأثر الذي تركه برحيله، هل سيشعره ذلك بالرضا عما قدم؛ أم أن قدر المبدع هو البحث اللانهائي، وحتى آخر لحظات حياته، عن التفرد في صناعة ذاكرة؟..

هديل فيزو