البعث ميديا يكشف النقاب عن بحث علمي استغرق ١١ عاماً حول ” الساحل السوري ونظمه البيئية “
البعث ميديا || اللاذقية – مروان حويجة
في ظلّ الحاجة الماسة و المستمرة لأبحاث علميّة نوعية تتناول البيئة البحرية و النظم البيئية للساحل السوري يأتي تصدّي المعهد العالي للبحوث البحرية في جامعة تشرين من خلال فريق من الباحثين المبدعين لدراسة بحثية بالغة الأهمية للساحل السوري بجهود هذا الفريق العلمي البحثي الذي أمضى نحو ١١ عاماً في البحث و الدراسة و ليبصر هذا البحث العلمي النوعي النور بعد إنجاز مراحل متتابعة من الدراسة التي غطّت كامل امتداد الساحل السوري من الشمال إلى الجنوب، و لأجل الإضاءة على هذا الإنجاز البحثي العلمي و للتعرّف على مكامن أهميته و أهدافه و نتائجه، فقد التقى موقع ” البعث ميديا ” مع الباحث الأستاذ الدكتور أمير ابراهيم – باحث في المعهد العالي للبحوث البحرية في جامعة تشرين و رئيس فرق البحث الذي أوضح أنه مضى ما يربو على 11 عاماً من البحث العلمي المتواصل والساحل السوري، بدءاً من منطقة السمرا أقصى شمال منطقة البدروسية وحتى الحدود اللبنانية جنوباً، تحت مجهر المعهد العالي للبحوث البحرية تحت مجهر المعهد العالي للبحوث البحرية حيث قمتُ والمجموعة البحثية المتخصصة بتنفيذ ثلاثة أبحاث متتابعة تمت بالتعاون بين جامعة تشرين والهيئة العليا للبحث العلمي، تناولت النظم البيئية لهذا الساحل وشواطئه ورصيفه القاري بما يحويه من مكنوزات فقارية حية.
و عن انطلاقة البحث قال د. ابراهيم : لقد بدأت هذه الأبحاث بدراسة ميدانية حول حساسية الموائل والأحياء الفقارية البحرية والشاطئية السورية والتكيّفات المطلوبة تجاه تغيرات المناخ، تم خلالها تقصّي واقع النظم البيئية المختلفة في مناطق السهل الساحلي والنطاق الشاطئي والرصيف القاري (المنطقة من خط الشاطئ وحتى النقطة التي يصبح فيها عمق الماء 200م) وما يحتضنه من سلاحف بحرية وفقمة ناسكة وحيتان ودلافين، من زاوية واقعها الراهن والتأثيرات التي حصلت عليها نتيجة تغيرات المناخ في الساحل السوري وحساسيتها تجاه تغيرات المناخ المتوقعة لاحقاً، ونوع التكيّفات والإجراءات المطلوب تطبيقها في تلك النظم البيئية للتقليل من التأثيرات السلبية لتغيرات المناخ اللاحقة.
عَرَض البحث الخيارات المختلفة المتاحة لتكيف هذه النظم البيئية مع تغيرات المناخ وارتفاع سوية سطح البحر، وتم اقتراح جملة من المشاريع الميدانية للتصدي للتهديدات المتوقعة، وذلك من خلال مشاريع تهدف نحو تمكين المناطق الساحلية والبحرية من التكيف مع تغيرات المناخ المتوقعة. من هذه المشاريع ماهو على مستوى التشريع وتطوير إستراتيجيات وطنية، ومنها ماهو مرتبط بأعمال تنظيمية على مستوى التخطيط المتكامل ومواجهة الضغوطات المختلفة على الموائل البحرية والساحلية، ومنها ماهو على مستوى مشاريع مرتبطة بأعمال مدنية- إنشائية تُقام في المناطق المعنية من الساحل السوري بهدف تأهيل الأماكن المتضررة أو درء الخطر عن الأماكن المُهدَّدة.
و بيّن د.ابراهيم أنه تلت انطلاقة الدراسة الميدانية دراسة ثانية تناولت مسحاً جيو-بيومورفولوجياً لمناطق محددة من الرصيف القاري السوري وتحديد طبيعة قاعه، حيث أجريت الدراسة على قطاعات الرصيف القاري المختلفة لتحديد الامتداد والاتساع والميلان وطبيعة القاع من خلال الصور الفوتوغرافية تحت المائية، ووجود الانخفاضات والارتفاعات المختلفة ومناطق التلال المغمورة والمتكشفة التي تنتهي إلى جزر حقيقية أو تنتهي إلى ضحضاح يتكشف فقط عند حدوث الجزر البحري. كما دُرست العلاقة بين عرض الرصيف القاري وعرض السهل الساحلي المقابل وتم معالجة بيانات الأعماق والإحداثيات الجغرافية التي تم الحصول عليها لإنتاج خرائط طبوغرافية لونية ثلاثية الأبعاد تظهر تضاريس المناطق المختلفة من الرصيف القاري. كما تم تقصي توزع المناطق الصخرية والرملية والطينية في المنطقة الشاطئية ووجود الرؤوس البحرية Capes ومواقع الخلجان Gulfs والجونات Bays، وحصر الأماكن المناسبة لتربية الأحياء البحرية. وتم خلال فترة البحث لحظ العديد من الظواهر البيولوجية نادرة الحدوث، بدءأ من أسراب الأسماك الغريبة ومروراً بالأنواع السمكية التي تسجل لأول مرة، إضافة الى واقع انتشار السلاحف البحرية والفقمة الناسكة والحيتان والدلافين.
و أشار د. إبراهيم إلى أنّه في البحث الثالث تم التركيز على دراسة المحميات الطبيعية والموائل المخربة والفقاريات المهددة في الساحل السوري، وسبل إعادة التأهيل، حيث تناول البحث النُظم البيئية المخرَّبة نتيجة الحت البحري.
و درست النُظم البيئية المجزأة نتيجة وجود الممرات الطرقية والمجاري المائية على الشاطئ، ونتيجة طرح منصرفات الصرف الصحي أو المياه الحارة في المياه البحرية الشاطئية ، ذلك يتسبب في تقسيم المكان الى مكانين متجاورين أو أكثر مما يعيق حركة الأحياء البحرية أو الشاطئية بين جزأي المكان الأصلي ويقلل التنوع الوراثي عند الأنواع الحية ما يسرّع انقراضها المحلي. ذلك يستدعي إقامة ممرات بيئية تصل بين أجزاء الموئل المجزأ بهدف زيادة المساحة الملائمة لنمو الأنواع البحرية وزيادة رقعة انتشارها وبالتالي زيادة مقدرة الأنواع على الاستمرار وتلافي انقراضها من المكان.
ودرست المواقع المهددة بالغمر نتيجة للارتفاع المتوقع في سوية سطح البحر وتحديد التقانات الواجب تطبيقها، كإجراء تكيفي استباقي لمواجهة الارتفاع المحتمل في سوية سطح البحر. ودرست مناطق الافراط الغذائي والحمولات العضوية الزائدة سواء في البحر ام في مصبات الانهار الساحلية والتي ترهق كثيراً هذه النظم البيئية. لحين انشاء محطات المعالجة المطلوبة، لابد من إجراء الدراسات اللازمة لطرح مخلفات الصرف الصحي في البحر وفق القوانين الدولية الناظمة، من حيث ضرورة ان يكون الصرف عبر انابيب مناسبة تبعد فتحاتها عن الشط حوالي 1كم وتنخفض حوالي 50م تحت مستوى سطح البحر، توخياً لبعثرة جيدة للملوثات وتمكين الوسط البحري من القيام بعملية التنقية الذاتية لهذه الملوثات وتقليل خطرها. ومن المهم في هذا المجال التقليل من الحواجز العرضانية الشاطئية التي أصبحت تنتشر كثيراً أمام المنشآت السياحية الساحلية، وذلك لتجنب إعاقة حركة المياه البحرية في المناطق الضحلة توخياً لبعثرة أكبر للملوثات وتلافي تراكمها.
و أوضح د. إبراهيم أنه تمّت دراسة المهددات والاجهادات Stresses التي تتعرض لها الأحياء الفقارية (أسماك، سلاحف، فقمة البحر المتوسط الناسكة، طيور، حيتان ودلافين) سواء من خلال النشاطات البشرية أم من خلال تغيرات ظروف الموائل الطبيعية الناتجة عن التغيرات المُناخية. في ظل الإجهادات الكثيرة التي تثقل كاهل هذه الأنواع الفقارية كان لا بد من تخفيف حدة هذه الإجهادات من خلال تحسين ظروف البيئة التي تعيش فيها هذه الأنواع كإجراء تكيفي لمساعدة هذه الكائنات الحية على تحمل وطأة الإجهادات المختلفة.
وانطلاقاً من حقيقة أن مساحة المحميات القائمة لا تكفي لتغطية التزامات القطر تجاه اتفاقية التنوع الحيوي وبرتوكولاتها، وذلك بموجب اتفاق آيتشي (Aichi 2010) لحماية التنوع الحيوي، فقد تم في هذا البحث دراسة عدد من المواقع على امتداد الساحل السوري لإعلانها كمحميات بحرية تنتظم ضمن الاشتراطات الوطنية لإقامة المحميات والمعلنة من قبل وزارة الإدارة المحلية والبيئة أو تلك المعلنة من قبل الاتحاد الدولي لصون الطبيعة IUCN، حيث تم دراسة الأماكن المقترحة لجهة المواصفات الطبوغرافية والهيدرولوجية والبيولوجية، وأفضت هذه المسوحات الى اقتراح بعض المناطق المحمية كمحمات للحياة البرية Wilderness reserves بحيث تُمنع فيها كافة النشاطات المخرِّبة للنظام البيئي، إنما يسمح بأعمال البحث العلمي والسياحة البيئية المنضبطة، ومحميات طبيعية صارمة “للأبحاث العلمية”Strict Nature Reserve لمراقبة التغيرات البيئية الحيوية وتكون مفتوحة فقط للبحث العلمي، ومحميات “الإنسان والمحيط الحيوي Man & Biosphere Reserve” بحيث تؤمن الحماية المطلوبة من منظور العلاقة المتوازنة بين حاجة الإنسان للموارد وبين الحاجة لحماية البيئة، وتطبق فيها نطاقات الحماية الثلاثة: لب المحمية Core zone، والمنطقة الواقية Buffer zone، والمنطقة الانتقالية Transition zone. إضافة إلى ذلك تم اقتراح مجموعة من الموائل الطبيعية لتكون بمثابة أماكن ذات حماية خاصة Specially Protected Areas تتكامل مع المحميات البحرية في توفير حماية فعالة للتنوع الحيوي الفقاري. تضمنت هذه الأماكن: مواطن تكاثر السلاحف البحرية ومواطن فقمة البحر المتوسط الناسكة ومواطن الحيتان والدلافين. هذا الى جانب إقامة محميات الأراضي الرطبة Wetlands لحماية الطيور البحرية المهاجرة على امتداد الساحل السوري، ومناطق الحيود الاصطناعية Artificial Reefs تستخدم فيها تركيبات خرسانية بأشكال محددة أو هياكل آليات ومعدات قديمة بحيث تخلق بيئات خاصة مناسبة لحضانة ونمو وتغذي وتكاثر الأنواع البحرية المختلفة.
و قال د. إبراهيم : هذه المنظومة من المحميات البحرية والساحلية المقترحة، تؤمن شبكة حماية وطنية متكاملة تشمل كافة النظم البيئية البحرية والساحلية السورية وتؤمن فاعلية Effectiveness الحماية وتمثيلية Representativeness المواقع وترابطيتها Connectivity وتكراريتها Replication، لتكوِّن شبكة مثالية للمحميات يمكن الانطلاق منا لتوسيع دائرة الحماية الوطنية باتجاه المياه العميقة في الرصيف القاري السوري ولربطها بشبكة المحميات الاقليمية في البحر المتوسط.
و أشار إلى أنه قد تزامن الانتهاء من هذه الأبحاث وعرض نتائجها مع يوم البيئة العالمي (2/حزيران/2021) وإطلاق الامم المتحدة لموضوع “استعادة النظم البيئية Ecosystems restoration”، حيث قررت الامم المتحدة اعتبار الفترة 2021 – 2030 بمثابة العقد الزمني والعقد القانوني لدول العالم لاستعادة النظم البيئية وإعادة تأهيلها، وحددت العام 2030 موعداً نهائياً لذلك ولتطبيق أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر باعتباره الفرصة الأخيرة التي يجب استخدامها للعودة إلى المسار الصحيح ومنع تغيرات المناخ المدمرة للنظم البيئية المختلفة. ضمن هذا الاطار توفر الأمم المتحدة منصة للحكومات والقطاع الخاص والجمعيات غير الحكومية والمجتمعات المحلية كل في نطاق عمله لطرح مبادراتها المختلفة على شكل مشاريع ميدانية للحد من أسباب تدهور النظم البيئية والبدء بجني ثمار هذه المشاريع، حيث قدرت الامم المتحدة أن الانفاق على استعادة النظم البيئية يدر دخل ليس أقل من تسعة أمثال الإنفاق في الوقت الذي يرتب فيه التأخير في الاستعادة ثلاثة أضعاف التكلفة.
إضافة لهدف الايفاء بالتزامات القطر العربي السوري تجاه الاتفاقيات البيئية الدولية التي وقَّع عليها، فإن تطبيق نتائج هذه الأبحاث يخدم هدف إعادة إعمار النظم البيئية وإعادة تأهيلها، إلى جانب دعم الاقتصاد الأزرق كأحد المكوِّنات الأساسية لخطة التنمية في البلد.