معضلة التبعية الهوياتيّة الطارئة ومسؤولية المؤسسات الحزبية والنقابية والحكومية
د. عبد اللطيف عمران
يعيش الناشئة من أبنائنا قسوة المعاناة مما يتوالد في عالم اليوم عن أجيال متتابعة ومتسارعة من الحروب، وذلك ناجم عن حدّة الاستقطاب، والاضطراب لتشكيل النظام العالمي الجديد، وسيحصد من يقف موقف المتفرج حصاداً مريراً، خاصة أن هذه الحروب تستهدف ثنائية الهوية والوعي، ومستلزمات ترابطها.
ففي عالم (بعد) ما بعد الحداثة الذي تنمّرت فيه استراتيجيات المحافظين الجدد والعولمة، وما بعد العولمة، أفضت التكنولوجيا الرقمية وثورة الاتصالات والتواصل إلى بروز أشكال من الهيمنة والتبعيّة استصعب المثقفون والمعنيّون في منطقتنا وعيها ومثاقفتها، بل حتى متابعتها والتعاطي معها، فكيف بالأجيال الجديدة التي تكابد أزمة الهويات الوطنية بعد الحرب الباردة؟.
في هذه المنطقة من العالم والتي نجحت إلى حد كبير في القرن الماضي في التعامل مع ثنائية الأصالة والمعاصرة، تلاشت اليوم المنجزات الإيجابية البنّاءة لحركة التحرر الوطني والاستقلال العربية، وانعكس هذا سلبياً تماماً على ثنائية الهوية والوعي. فبدأت بالحضور، وبالفعل، الانتماءات ما قبل الوطنية التي تمت تغذيتها بقوة من الخارج، فتسربت إلى الداخل وتوطدت واستطار شرّها وشررها مدعّماً بمراكز الأبحاث الاستراتيجية، وبالميديا المرتبطة بالصهيوأطلسيّة.
لا شك في أن تلك المراكز، والميديا، ودوائر صنع القرار الصهيوأطلسيّة رأت مدخلاً مناسباً إلى إضعاف الروح الوطنية والعروبية في مجتمعاتنا وأوطاننا عن طريق تفكيك الهوية الأصيلة والتقليدية الجامعة التي كان أفق الحضارة العربية الإسلامية من مكوّناتها، فعملت على تشكيل هويات عديدة جديدة غير جامعة، بل متنافرة، وذلك عن طريق بعض مما يلي:
1- التضخيم غير المسبوق للانتماءات ما قبل الوطنية: دين- طائفة- مذهب- إثنية- عشيرة، والعمل مسبقاً على تجهيز مخيمات وفتح الحدود والتواصل مع عملاء.
2- استئجار أقلام وفضائيات ووسائل تواصل تدفع بالأجيال الطالعة، أفراداً وجماعات، للتفتيش عن هويات جديدة دفينة لتظهيرها كهويات مضادة للهوية الوطنية والعروبية وتابعة لمصادر العدوان.
3- غرس ثقافات وهويات جديدة تخرّب الوعي والانتماء السابق الأصيل، غرساً يقع ضحيته الطبقات الشعبية لترفع شعار المظلومية والتهميش توطيداً لنزعات انفصالية في العقل، وفي الجغرافيا وفي التاريخ والمستقبل.
4- التخطيط لدفع الناشئة للبحث عن عالم بلا هويات (بلا أصالة ووعي وانتماء) يقوم على إلغاء الهويات الوطنية والقومية، عالم ينجزه الذكاء الصناعي بعيداً عن الذكاء الطبيعي الفطري، مفعم بالشك والشكوى.
5- توظيف إشكاليات تصنيف الهويات الطالعة في معترك صدام الهويات وأزمة المواطنة، ما يجعل كل هويّة تبحث عن تبعيّة، ودعم، ومصالح متناقضة مع الهوية الأخرى في المجتمع الذي كان موحّداً سابقاً.
6- ظهرت حتى تاريخه مسألة الهجرة من، وإلى، كجيل خبيث من أجيال الحروب لتحطيم الحدود الوطنية، وبالتالي الدولة الوطنية، والسيادة، فصار كل شيء جوّالاً وعابراً للحدود: الإرهابيون إلى الداخل، والمواطنون إلى الخارج في سبيل إفراغ الأوطان وإنشاء ديمغرافيا وجغرافيا وسيسيولوجية وهويات جديدة لأبناء الوطن الواحد في الداخل والخارج.
7-8-9.. إلخ، وهذا غيض من فيض الحاضر والقادم.
هذه الحرب الطارئة اليوم على الهوية لها أسس وجذور عند تكنوقراط الاستعمارين القديم والجديد، وهناك مفكرون ومؤلفات سابقة بحثت فيها بشكل مجدٍ وضروري على نحو ما نجد مثلاً في مؤلفات د. سمير أمين في (التبعية)، وفي مؤلفات أندري فرانك في (نظرية التبعية)، وكذلك عند نوربرت إلياس الذي بيّن أن: ليس هناك هوية لـ (الأنا) دون هوية الـ (نحن)، فالواقع الاجتماعي يبيّنه الأفراد الفاعلون (المجتمعيّون)، لكن سلطة الدولة هي المحرّك الحقيقي للحضارة، كما أن المنتديات المطبوعة لمركز دراسات الوحدة العربية تحمل كل مفيد في هذا السياق.
ويقع على عاتق مؤسساتنا الحزبية والنقابية والحكومية تبعات التعامل مع هكذا معضلة، فالتعصّب للدولة أحادية الدين والطائفة واللغة والعرق والثقافة مجرّد وهم، غير ممكن اليوم لاعتبارات علمية وواقعيّة، فهكذا تعصّب هو إرهاب كما هو واضح. وقد كان لحديث السيد الرئيس بشار الأسد أمام الحكومة الجديدة أهمية واضحة، ولا سيما حين حدّد للوزارات الخمس مسؤولياتها فيما يتصل بالهوية والوعي والإعلام، إذ قدّم سيادته مقاربات لافتة في كلماته، خاصة أثناء سني العدوان على سورية، وقد جُمِع بعضُها في مؤلَفين . . . والمنشود المثاقفة والعمل.