بين المعري ودانتي
عندما أغلق الإيطاليون أذانهم عن الصدى المدوي الذي أحدثه اكبر المستشرقين الإسبان “بلاسيوس” عام 1919 بإعلانه أن دانتي 1256 – 1321 في “الكوميديا الإلهية” قلد بعض الكتب العربية ومن أهمها “رسالة الغفران” لأبي علاء المعري973 -1057م- جاء الدليل المدوي حين اصدر المستشرق الإيطالي “أنريكو تشيروللي” كتابا عام 1949 نشر فيه الترجمة اللاتينية والفرنسية القديمة للكتابات العربية للمعراج الإسلامي، وتلخص قصة هذه الترجمة في أن “الفونسو العاشر” ملك قشتالة بإسبانيا أمر بترجمة هذه الكتابات من العربية إلى القشتالية، وقد قام بذلك الطبيب اليهودي إبراهيم الحكيم عام 1264، أي قبل مولد دانتي بعام واحد، بعد ذلك طلب هذا الملك من المترجم الإيطالي “بونا فنتوراداسينا” ترجمتها من القشتالية إلى اللاتينية والفرنسية القديمة في نفس السنة، وذلك لإذاعتها فيما وراء الحدود الإسبانية، وبذلك قام “تشيروللي” بتأيد فكرة “بلاسيوس” وبما لا يدع مجالا للشك، في أن “أبي العلاء المعري” أخذ كل بشر الدنيا إلى السماوات، من خلال رسالة الغفران، قبل أن يفكر دانتي حتى بكتابة منجزه!
ماذا كان سيحدث لو كان الأب “ميجويل أسين بلاسيوس” قد أخفى اكتشافه وجعله سرا يدفن معه يوم مماته؟ هذا الاكتشاف الذي أكد أن رائعة أوروبا المعروفة بـ: “الكوميديا الإلهية” لشاعر العصور الوسطى “دانتي” منقولة من أصول عربية، وفي مقدمها من بديع وأكمل وأهم ما أنتج رهين المحبسين “رسالة الغفران” لو كان قد فعل ذلك، لترتب على هذا الفعل العديد من النتائج، في مقدمتها استمرار هذا السر مجهولا، واستمرار اختفاء حقيقة أبوة “رسالة الغفران” لـ “الكوميديا الإلهية”! الأمر الذي يدل بدوره على وجود الجسور التي كانت تربط بين الفكر العربي والفكر الأوربي في العصر الوسيط.
وبغض النظر عن هذا الشرف العظيم الذي جهدت أوروبا إلى طمسه، تبقى الآثار الخالدة لهذا المفكر والأديب والشاعر والروائي السوري أيضا “حسب ظني المتواضع في رسالة الغفران” هي واحدة من أهم وأعرق الأعمال الفكرية والشعرية والأدبية التي تفخر بها البشرية جمعاء.
المعري الذي قال فيه أخر الفحول “الجواهري”:
قِفْ بالمعَرَّةِ وامسَحْ خَدَّها التَّرِبا/ واستَوحِ مَنْ طَوَّقَ الدُّنيا بما وَهَبا
أبا العلاءِ، وحتى اليومِ ما بَرِحتْ/صَنَّاجهُ الشَعر تُهدي المترفَ الطَّربا
يَستنزلُ الفكرَ من عَليا مَنازلهِ/ رأسٌ ليمسحَ من ذي نعمةٍ ذنَبا
وزُمرةُ الأدبِ الكابي بزُمرتهِ/ تفرَّقَتْ في ضَلالاتِ الهوى عُصَبا
تَصَّيدُ الجاهَ والألقابَ ناسيةً/بأنَّ في فكرةٍ قُدسيَّةٍ لقبا
وأنَّ للعبقريّ الفذِّ واحدةً/ إمَّا الخُلودَ وإمَّا المالَ والنَّشبا.
إن الذين قاموا مطلع عام 2013 بتحطيم رأس تمثاله -الذي أنجزه النحات السوري “محمد فتحي قباوة” في معرة النعمان سنة 1944 بمناسبة مرور ألف سنة على وفاته-في سعيهم إلى إرساء ((الحرية والديمقراطية التي يعرفون)) فاتهم أنّه القائل:
وقد سارَ ذكْري في البلادِ فمَن لهم/ْ بـإِخفاءِ شـمسٍ ضَوْؤها مُتكامل
يُـهِمّ الـليالي بعضُ ما أنا مُضْمِرٌ/ ويُـثْقِلُ رَضْوَى دونَ ما أنا حامِل
تمّام علي بركات