ثقافة وفن

وديع الصافي.. الغياب الأكثر حضورا

تحل الذكرى الثامنة لرحيل عملاق الأغنية اللبنانية، وأحد دعائم الأغنية العربية الأكثر رسوخا، البارحة واليوم وغدا، دون الشعور بثقل هذا الرحيل، الذي يوشك أن يكون حضورا لا ينتهي، لصوته الهادر كمحيط، الصافي كضحكة نهر، وإحساسه الفريد الذي يلج القلوب دون استئذان، وديع الصافي، المولود في الأول من شعر تشرين الثاني لعام 1921، المتوفي في مثل هذا اليوم لعام 2013، لمّا يزل عصفوره، يغرد في حديثه مع الغصن و”الفي والنبعات” متنقلا بين طبقات الصافي الصوتية، برشاقة وانسيابية أخاذة تخطف الانتباه، وتقبض على الوجدان؛ صدى مواويله و”أوفه” الشهيرة، صارتا من العلامات الفارقة في حياة شعوب المنطقة، المقيم منهم والمهاجر، في كل شارع له حضوره اليومي، وفي كل الأوقات، فما شدا به وقدمه في مسيرته الفنية الحافلة، من أغان متنوعة الألوان والقوالب الغنائية، جعل منه المطرب الذي تستمع له مختلف الأجيال والشرائح الاجتماعية، ليس محسوبا على نوع بعينه من “السميعة” كحال العديد من المطربين الكبار في العالم العربي بل والعالم أيضا.

صعد نجم وديع الصافي في الحقبة الذهبية للأغنية العربية، وبين أساطينها الكبار، فيروز، عبد الوهاب، أم كلثوم، فريد الأطرش، نصري شمس الدين وغيرهم، وكان قد تعاون فنيا مع معظمهم، سواء غنى لهم أو غنوا له، وقد حرص أهم الشعراء والملحنين وكبار المطربين “عبد الوهاب، فريد الأطرش، بليغ حمدي، فيلمون وهبي، وغيرهم” على أن يغنيهم وديع الصافي، بصوته الذي يترك علامة في الجبال، إلا أن حضوره الأهم والأجمل على الساحة الغنائية اللبنانية والعربية، حققه في العلاقة الإنسانية والفنية التي جمعته بكل من عاصي ومنصور الرحباني، سواء غنى من كلماتهم وألحانهم مثل “أم عيون اللوزية/عمر يا معلم العمار/يا أم الضفاير وغيرها، أو من كلمات كبار الشعراء ومن مختلف العصور، وألحان الرحابنة، مثل: “حامل الهوى تعب” أبو النواس، “رح حلفك بالغصن يا عصفور” شاعر المحكية البديع ميشيل طراد، وغيرهم.

مرت الأغنية العربية بفترة ركود طويلة، فاجتاحت موجة من “الغناء” الفاقد للخصوصية والهوية، موجات الراديو، واكتسحت شاشات التلفزة، نماذج من المغنين الذين هم “كالهلام، بلا نكهة أو رائحة” كما يقول “ماياكوفسكي” وكان المشهد ليغدوا عتما سرمديا لولا وجود بعض الأقمار المضية، في تلك الفترة الشاقة، منها “وديع الصافي” الذي بقي في قمة مجده، رغم تبدل الأمزجة والأحوال، ويحسب أيضا للصافي أنه جعل من فن العتابا الجبلية، فنا عابرا للحدود، فالصوت الهادر، القوي، المطواع، والحنون أيضا، كان أن قدمه بكل رقي واحتراف، متكئا على شعر بديع في مختلف الألوان التي غناها وأبدع بها، وصار الجمهور عاشقا لهذا الفن ويطلبه في كل حفلة أقامها.

التزم الفن الذي قدمه الصافي، بالأصالة وبالعصرية، من حيث الكلمات واللحن والحضور أيضا، وحضرت في ألبومه الغنائي الكبير، العديد من الأغاني ذات الطابع الوطني المباشر، منها على سبيل المثال، الأغنية البديعة “الله معك يا بيت صامد بالجنوب” وموال “يا بني” الذائع الصيت، “حب الوطن ما اجملو” موال “بلدي” والغير مباشر، مثل “عندك بحرية/ بيتنا المهجور/فوق سطوح ضيعتنا العلياني وغيرها” غنى للجمال، للحب، للفرح، الحزن/ للزعل، الرضا، للناس الذين احبو صوته وقدروا فنه، فأدخلوه صدور منازلهم، ومنهم من ائتمنه على بوح في لحظة صفاء، هناك من رقص، دبك، وبكى أيضا؛ لقد غنى وديع الصافي فابدع وأذهل، جاعلا من المدى، بعذوبة صوته وفخامة أداءه، أكثر اتساعا، تاركا في الدنيا وبين أهلها، علامة مشرقة، تدل عليه، وعلى مروره النيزك في الحياة، مهما تغيرت التواريخ وتبدلت الأرقام.

تمّام علي بركات