اخترنا لك

الـ “بي بي سي” و”كيماوي” دوما

لم يكن غريباً أن تتجاهل وسائل الإعلام العربية، خبر إقرار هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» بأنّ تقريرها الذي أذيع حول الهجوم الكيميائي المزعوم في مدينة دوما السورية عام 2018، كان يحتوي أخطاء خطيرة وادعاءات كاذبة؛ لأنّ وسائل الإعلام العربية هي مجرد صدى للجوقة العالمية التي تؤدي دورها التمثيلي دون إتقان، فأصبحنا نشاهد قناة مثل قناة الجزيرة، تسمّي الجيش السوري، بجيش «النظام السوري»، كما أننا شاهدنا معظم القنوات العربية تنقل تقرير الـ “بي بي سي” عن دوما دون التثبت والتأكد من صحة الخبر. ولا أدري ماذا سيكون موقف هذه القنوات بعد أن اتّجهت الأزمة السورية إلى الانفراج، وبدأت الدول العربية تعيد علاقاتها مع سورية، وعُقدت لقاءات رسمية بين مسؤولين عرب وسوريين، وجرت اتصالات هاتفية مع الرئيس بشار الأسد؟
جاء اعتراف الـ(بي بي سي) بهذا الخطأ بعد أن أيّدت وحدة الشكاوى التنفيذية بالمؤسسة، احتجاجًا قاده الكاتب الصحفي بيتر هيتشنز ضد ما جاء في التقرير؛ فحسب صحيفة «الديلي ميل» البريطانية التي نشرت الخبر وفقًا للمحكمين في هذه القضية فإنّ الفيلم الوثائقي الذي أعدته الصحفية الاستقصائية كلوي هادجيماتيو أخفق في تلبية المعايير التحريرية للمؤسسة فيما يتعلق بالدقة من خلال نشرها ادعاءات كاذبة، حيث نقلت كلوي عن شخص يدعى أليكس قدّمته على أنه مفتش سابق في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية قوله إنّ هجوماً حصل في دوما عام 2018، استُخدمت فيه الأسلحة الكيميائية، إلا أنّ وحدة الشكاوى التنفيذية توصلت إلى نتيجة مفادها بأنّ الـ “بي بي سي” كانت مخطئة، ولتعترف الأخيرةُ بدورها أنها لا تملك أيّ دليل يدعم ادعاءات أليكس بحدوث الهجوم في دوما.
وإذا كانت هيئة الإذاعة البريطانية – التي بثت التقرير – تعترف الآن أنها لا تملك أيّ دليل على الهجوم، فقد كان عليها أن تنتبه لتغريدات مراسلها ريام دالاتي عام 2019، الذي غرّد أنّ تحقيقات أجراها واستغرقت أشهراً حول المشاهد التي قيل إنها صورت في مستشفى مدينة دوما بالغوطة الشرقية يوم الهجوم الكيميائي المزعوم، أثبتت أنها مجرد مسرحية، في تأكيد جديد على حقيقة الحملات التضليلية الدولية التي تتعرض لها سورية، وأكد في إحدى التغريدات أنّ غاز السارين لم يُستخدم في مدينة دوما، وأنّ كلّ ما قيل حول هجومٍ باستخدام السارين كان مفبركًا، كي يكون لديه أكبر قدر ممكن من التأثير.
لم يكن إقرار الـ “بي بي سي” بخطئها هو الأول من نوعه، فقد سبقه تسريب لمسؤول في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية حصل عليه موقع «ذي غري زون» الإخباري المستقل، كشف أنّ إدارة المنظمة “شنت هجوماً خبيثًاً ومعيباً ضد مفتشَيْن مخضرمَيْن أثبتا عدم صحة رواية المنظمة الرسمية بخصوص الهجوم الكيميائي المزعوم في دوما واتهام الجيش العربي السوري به لتبرير العدوان الأمريكي البريطاني الفرنسي ضد سورية آنذاك، وهو ما لم يظهر أيضاً في وسائل الإعلام العربية التابعة للدول المعادية لسورية”.
جاء اعتذار الـ “بي بي سي” أيضاً ليؤكد ما سبق ونشره موقع «ويكيليكس» في ديسمبر 2019، من أربع وثائق مسربة من منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، تستبعد استخدام غاز الكلور في مدينة دوما بريف دمشق، وكشفت تلك الوثائق أنّ اختصاصيين في علم السموم استبعدوا أن تكون الوفيات جراء التعرض لمادة الكلورين، وذلك في تأكيد جديد على تلاعب المنظمة بالتقرير النهائي حول الهجوم الكيميائي المزعوم.
مجرد ظهور تقرير الـ “بي بي سي” حول اتهامات الهجوم الكيماوي، نفت وكالة الأنباء الرسمية السورية «سانا» مسؤولية الحكومة السورية عن الهجوم، وذكرت أنها ادعاءات من قِبل «جيش الإسلام» المنتمي إلى المعارضة السورية المسلحة التي تسيطر على دوما؛ لكن رغم النفي السوري الرسمي لتلك المزاعم، إلا أنّ قوات حلف شمال الأطلسي شنت ضربات على مناطق في سورية ادعت إنها مصانع إنتاج الكيماوي، وكان التقرير الذي بثته الـ “بي بي سي” من بين التقارير الإعلامية التي على أساسها قُصفت سورية، ممّا يطرح سؤالا هو من سيحاسب مثل هؤلاء الذين تسببوا بالويلات والثبور وعظائم الأمور في سورية والعراق وليبيا وأفغانستان وغيرها من البلدان؟!
لقد أشار الكاتب الراحل روبرت فيسك عقب زيارة إلى مستشفى دوما ومقابلاتٍ مع الأطباء إلى جانب سكان المدينة، إلى أنّ أولئك الذين بقوا على الأرض في دوما بدوا «مرتبكين» من التقارير عن هجوم بالغاز؛ فمعظمُ التقارير وصلت من أولئك الذين وصلوا إلى تركيا كلاجئين، ولم يكن أيٌ من أولئك الذين تحدث فيسك إليهم مقتنعاً بحدوث مثل هذا الهجوم؛ وأفاد فيسك أنّ القصة كلها بدأت عندما صرخ أحد أعضاء الخوذ البيضاء «الغاز والغاز»، ممّا أدى إلى الذعر بين الضحايا في المستشفى المحلي المؤقت. وكان الاستنتاج النهائي الذي نشره فيسك في صحيفة «الإندبندنت» البريطانية أنّ الفيديو كان حقيقياً، لكن الناس لم يكونوا يعانون من آثار الغازات السامة، ولكن من نقص الأكسجين الناجم عن استنشاق الغبار.

اعترافُ الـ “بي بي سي” بفبركة الصور ربما يكون محموداً، رغم أنه لن يكون مفيداً، لكنه لم ولن يكون هو الأول والأخير؛ ففي عام 2016، أثيرت قضية قصف بالكيماوي في سورية، وشنت الولايات المتحدة على إثرها ضربات بالصواريخ، بناء على تقارير منظمة «أصحاب الخوذات البيضاء»، التي كانت مصدر الصور؛ وبعد شهور كشفت منظمة «أطباء سويديون من أجل حقوق الإنسان» عمّا أسمته «خداع الخوذات البيضاء»، قالت فيه إنّ أعضاء الخوذات زيّفوا الصور والفيديوهات، وظهر ضحايا مفترضون يفتحون عيونهم قبل انتهاء التصوير «رأينا هذه المشاهد وهي متوفرة في اليوتيوب»، كما أنّ المنظمة نشرت صوراً، زعمت أنها لضحايا سوريين، اتضح فيما بعد أنها لضحايا من العراق وخارج سورية.

وفي الواقع فإنّ منظمة «أصحاب الخوذات البيضاء» ليست إلا منظمة استخباراتية ليس لها أيّ علاقة بالعمل الإنساني؛ فهي عبارة عن مجموعة إنسانية زائفة أسّسها عام 2014 ضابط سابق في الجيش البريطاني، وتمولها الولايات المتحدة ووزارة الخارجية البريطانية، ويتم تصويرها في الغرب على أنها فريق بحث وإنقاذ بطولي، وتعمل فقط في المناطق التي تسيطر عليها المنظمات المعادية لسورية، بما في ذلك “جيش النصرة”؛ وهي معروفة بمقاطع الفيديو الدعائية المتقنة التي يظهر دائماً فيما بعد أنها مفبركة، وهي التي نشرت لقطات لسكان دوما في مستشفى محلي، قالت إنه دليل على وقوع هجوم بالغاز في المدينة من قبل الحكومة السورية.

تقرير الـ “بي بي سي” لم يكن مجرد خطأ للمراسل، لكنه جزءٌ من سياسة بريطانية في توظيف الإعلام لصالح مصالحها وأهدافها؛ وهذا يذّكرنا بقضية تهمة أسلحة الدمار الشامل، التي اتُهم العراق بحيازتها، وتَدَمّر البلد بسبب تلك التهمة الباطلة. ومع اعتراف المسؤولين الأمريكيين بخطأ التهمة، إلا أنّ ذلك الاعتراف لم ولن يفيد العراق والعراقيين في شيء، تماماً مثلما لن يفيد اعتراف الـ “بي بي سي” سورية والسوريين في شيء.

ومع تسليمي التام بأنّ هناك أخطاء ارتُكبت في سورية، (وهذه نقطة هامة) وبأنّ الشعب السوري يستحق حياة أفضل؛ – حاله كحال كلّ شعوب العالم – إلا أنّ الاعتراف بهذه الأخطاء يجب ألا يجعلنا نسلّم بكلّ شيء حتى وإن كان مفبركاً، ويجب علينا أن نفرّق بين تلك الأخطاء وبين المؤامرة الكونية التي تعرّضت لها سورية، كما تعرّض لها العراق من قبل.

المصدر: جريدة عُمان