حول تعامل واشنطن مع الحرب كمسألة دولار في كلمة الرئيس الأسد في الأكاديمية العسكرية العليا
د. إبراهيم علوش
لعل من أهم النقاط التي أثارتها كلمة الرئيس الأسد في الأكاديمية العسكرية العليا في دمشق يوم 27/10/2021 هي مسألة العلاقة بين نزعة واشنطن لشن الحروب بصفة دائمة من جهة، وبين الموازنات الضخمة التي تذهب للشركات الأمريكية التي تصنّع العتاد العسكري من جهةٍ أخرى. وهي علاقة قلما تعطى حقها من الاهتمام عند الحديث عن التوجهات الحربجية للولايات المتحدة عبر تاريخها القصير نسبياً، وعبر الكرة الأرضية اليوم، وفي المستقبل.
تحدث الرئيس الأسد، بحسب عدد من المواقع، “عما يقال عن تريليونات الدولارات التي صرفتها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، وتساءل: على من صرفت تلك التريليونات؟ هل صرفت على الشعب العراقي أو الأفغاني؟ ويجيب أنها صرفت على الشركات الأمريكية.”
وأضاف: “إذن فإن عملية الحروب هي عملية دولار بالنسبة للأمريكيين، وهذا الدولار يصب في صالح الشركات الأمريكية.. لذلك علينا أن نتوقع أنه “بعد هزيمة (الولايات المتحدة في أفغانستان)، وبعد هزيمة العراق، وبعد هزيمة الصومال في 1994، وبعد هزيمة فيتنام، سيكون هناك المزيد من الحروب والمزيد من الهزائم، وسيبقى الدولاب يدور في نفس الإطار”.
إن مثل هذا الربط بين الدولار (الإنفاق الدفاعي الذي تستفيد منه احتكارات خاصة)، وبين توق الدولة الأمريكية للحروب، ولإشعال الحروب حتى لو لم تكن طرفاً مباشراً فيها، مهمٌ جداً لفهم السياسة الأمريكية في بلادنا وفي كل مكان في العالم، بشكل منفصل منهجياً عما إذا كانت نتيجة تلك الحروب هزائم أم انتصارات أمريكية، لأن مربط الفرس يبقى في الاقتصاد السياسي للصناعات العسكرية في الولايات المتحدة.
لقد كان أول من حذر من خطر ما أسماه “المجمع العسكري-الصناعي” في الولايات المتحدة وأثره على سياسات الدولة هو الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت أيزنهاور في خطابه الوداعي، أي قبيل تركه للرئاسة، عام 1961. وهو قائد جيوش بارز في الحرب العالمية الثانية بالمناسبة، ومن المؤكد أنه لم يكن ليجرؤ على مناطحة المجمع العسكري-الصناعي خلال وجوده في الرئاسة.
نشير إلى أن الموازنة العسكرية الأمريكية بلغت 714 مليار دولار عام 2020، وقد كان الإنفاق العسكري الأمريكي 732 مليار دولار عام 2019، ويقدر بأنه سيكون 754 مليار دولار تقريباً مع نهاية عام 2021، ويتوقع أن ترتفع الموازنة العسكرية الأمريكية إلى 900 مليار دولار عام 2030.
هذه الموازنة، إذا أخذنا عام 2020 مثالاً، ليست أكبر موازنة عسكرية في العالم فحسب، بل هي أكبر من الموازنات العسكرية للصين وروسيا والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية والسعودية مجتمعة.
لننظر كيف تستفيد بعض أكبر الشركات العسكرية الأمريكية من مثل هذا الإنفاق:
1) شركة “لوكهيد مارتن” بلغت مبيعاتها أكثر من 65 مليار دولار عام 2020،
2) شركة “رايثون” بلغت مبيعاتها حوالي 57 مليار دولار عام 2020،
3) شركة “جنرال داينمكس” بلغت مبيعاتها أكثر من 39 مليار دولار عام 2019، 63% منها عسكرية والباقي مدنية.
4) شركة “نورث روب غرومان” بلغت مبيعاتها أكثر من 30 مليار دولار عام 2018.
وهكذا… لنصل إلى مئات مليارات الدولارات من المبيعات العسكرية بالمجموع سنوياً. ويمكن التأكد من هذه الأرقام من مواقع تلك الشركات على الإنترنت.
ولا يقتصر الأمر على العقود مع البنتاغون، إذ تدل الأرقام الرسمية الأمريكية على أن الشركات “الدفاعية” الأمريكية (كما تسمى الشركات العسكرية رسمياً) صدّرت أسلحة خارج الولايات المتحدة بقيمة 175 مليار دولار عام 2020، وهو رقم يتأرجح بين عامٍ وآخر، فقد كانت الصادرات العسكرية الأمريكية حوالي 248 مليار دولار عام 2018 مثلاً.
وكلما اشتعلت حروب حول العالم، كلما ازدادت المبيعات… وكلما ساد الهدوء والاستقرار، كلما ضعفت المبيعات العسكرية، وقلت أرباح تلك الشركات. فلا بد من تسعير الحروب إذن، ومن النفخ في بوق الدم والعدوان، بالسياسة، بالثقافة، عبر هوليود مثلاً التي يعيرها البنتاغون المعدات العسكرية بسرور لتنتج الأفلام التي تمجد الحروب وأفلام الـSuper Hero التي تصب في المسار ذاته.
المسألة مسألة اقتصاد سياسي. فهناك أولاً الاحتكارات الكبرى التي تنتج السلاح وعلاقاتها المشبوهة مع السياسيين وصناع القرار، وهناك ثانياً ارتباط عدد من الصناعات المدنية الأمريكية بالصناعات العسكرية، واعتمادها على العقود معها. ويعتبر تقدير حجم اعتماد الصناعات والشركات المدنية الأمريكية على شركات السلاح مسألة خلافية بين الاقتصاديين الأمريكيين، لكن لا بد من الإشارة إلى أن اليساريين منهم يصرون على اعتبار الاقتصاد الأمريكي اقتصاداً مبرمجاً حربياً يدخل في دورة كساد كلما سادت النزعات السلمية في السياسة الأمريكية، ولهذا لا بد أمريكياً من شن الحروب، أو من الترويج لها دولياً على الأقل.
لا يتوقف الأمر هنا. فمع توجه البنتاغون لخصخصة القتال والمهمات العسكرية، نشأت صناعة مرتزقة دولية يمثل البنتاغون السوق الدولية الأكبر لها. كذلك هناك شركات مثل “هاليبرتون” التي تلقت وحدها أكثر من 30 مليار دولار بين عامي 2001 و2008 لتأسيس القواعد العسكرية وإدارتها وتأمين الغذاء والقيام بأعمال لوجستية في العراق وأفغانستان. وقد تداخل القيام باللوجستيات مع استئجار المرتزقة لتأمين نقل الوقود وتدريب القوات الأجنبية والقيام بمهمات الحراسة الخاصة على القواعد والمرافق المهمة لها. وهو موضوع كبير يحتاج إلى معالجة موسعة أيضاً، لا سيما أنه بات يتخذ منحىً متصاعداً خلال العقدين الأخيرين. وتشير دراسة صدرت عن مركز أبحاث تابع لجامعة براون الأمريكية في أيلول الفائت إلى أن أكثر من نصف الـ14 ترليون دولار التي أنفقها البنتاغون منذ 11 سبتمبر عام 2001 ذهبت لشركات تعاقد خاصة، أغلبها لشراء العتاد، ونسبة متزايدة منها للمتعاقدين الخاصين (المرتزقة) وشركات الدعم اللوجستي.
بجميع الأحوال، ثمة نزعة حربية أمريكية لن تتوقف حتى مع الهزائم، لأن منبعها داخلي، اقتصادي-سياسي، وربما تصبح مثل هذه النزعة أكثر ضراوةً مع شعور الولايات المتحدة الأمريكية أن مكانتها الدولية تتعرض لمنافسة شرسة، لأن القاعدة الاقتصادية المدنية الأمريكية تضعف بما قد يؤثر على قدرة الدولة على تحمل تكلفة إنفاق عسكري بمثل هذا الحجم المهول، فإما أن تتقوقع الولايات المتحدة، وإما أن تمارس الحروب للحفاظ على موقعها، ولو كانت حروباً بالوكالة. ولهذا فإن قول الرئيس الأسد “سيكون هناك المزيد من الحروب والمزيد من الهزائم، وسيبقى الدولاب يدور في نفس الإطار”، له ما يبرره من منظور الاقتصاد السياسي، وهو أمر يجب أن تتنبه له كل شعوب الأرض، لا السوريون والعرب فحسب.
كذلك، فإن الحديث عن الصمود في هذا السياق ليس حديثاً إنشائياً، فالصمود الإيجابي الذي تحدث عنه السيد الرئيس، صمود البناء والتطوير، هو أمر لا مفر منه طبعاً، ولكن الصمود بالمعنى التقليدي، الوطني، هو صمود لا بد منه لمن يريد أن يكون لديه وطن.
الجيش العقائدي (مقابل مقولة الجيش “المحترف” المزعومة، كأن الجيش الحالي هو جيش من الهواة) هو الند الوطني والقومي لمثل هذه النزعة العسكرية المغالية، وهي مقولة سبق أن تطرق إليها الرئيس الأسد في لقائه مع العلماء ورجال الدين في 23/4/2014، (وسبق أن عالجتها في كتاب “القائد القومي بشار الأسد: خطاب سنوات الحرب 2011-2019″، ص. 71).