ثقافة وفن

عن مصير الكتاب الورقيّ.. أزمة مكان أم زمان!

 

هي ليست أزمة كتاب، فقوّة الكتاب تنبعث من ذاته، وقدرته على فرض ديمومته على مرّ الزمن، ولا يمكن لأزمة مهما قست واشتدّت أن تضعفه أو تنهيه، كما أنّها ليست بأزمة قارىء، فالقارىء موجود دائماً، يعيش منذ الأزل بين الحروف، متمسكاً بحافة كتاب منتظراً أبداً ولادة الكلمة، الأمر أن الكتاب أضاع مكانه، وبات يبحث عمن يحتضن أوراقه ويلملم شتاته، في زمن رديء سارق يغتال تحت ستار التطور كلّ جميل، المسألة تتعلّق بالمكان، بهويّته، بكلّ ما يمثّله من حالة ثقافيّة ووجدانيّة لا بدّ من حضورها، بكلّ الذكريات التي تتشبّث بالكثيرين الذين توافدوا عليه على مرّ الزمن، ليهربوا لعالم شكّل ملجأ لهم على الدوام، الأمر يتعلق برائحة الورق وقدسية المكان، وكلّ ما فيه من تفاصيل كرّست واقعاً ثقافياً وحضارياً لا يمكن الاستغناء عنه، ولا ينبغي لأيّ استثمار تجاري أن يحلّ محلّه.

ليس القصد مكتبة ما فحسب، بل كلّ مكتبة، القصد هو المشهد الثقافي العام الذي تعتبر المكتبة الورقية أهمّ معالمه وأعمدته، وإن كان لا مفرّ من مواكبة التطوّر والاستثمار في المكان، فلا بدّ بالمقابل أن تراعى الهوية الثقافيّة والفكريّة له، والتي بتنا بحاجة إليها أكثر من أي وقت مضى، فهل يتشبّث أهل المكان بمكانهم، وهل تشهد المكتبة تطوّرات تدعمها وتحميها، أم أنّها تتجه نحو المزيد من التراجع..

 

مكتبات من نوع جديد

 من الطبيعي أن يتألم الكاتب عندما يعلم بإغلاق مكتبة، بهذا بدأ الكاتب حسام خضور حديثه، فهذا يمثل انطفاء منارة تهدي، لكن بعيداً من العواطف والحرب التي أحرقت كثيراً من المكتبات في المناطق التي سيطر عليها الإرهابيون، وأضعفت القوة الشرائية في بقية البلاد كثيراً، كان متوقعاً، حسب خضور، أن تشهد المكتبة التقليدية تغيرات هيكلية تؤدي في نهاية المطاف إلى تراجعها بفعل عوامل موضوعية لا ترتبط بالعزوف عن القراءة، بل ربما بالإقبال على القراءة.

في مقدمة تلك العوامل التقدم التكنولوجي في حقلي الاتصالات والمعلومات، واتساع صناعة النشر إلى درجة لم يعد بمستطاع القارئ أن يطلع عليها بالطرق التقليدية، بالإضافة إلى ظهور بدائل مثل الكتاب الإلكتروني بأشكال مختلفة منها الكتاب الصوتي.

كما أضاف خضور إلى تلك الأسباب أسباباً اقتصادية تتمثل بهيمنة رأس المال العقاري، على سبيل المثال، في دمشق، لم يعد الاستثمار العقاري يقدم ربحاً لصاحب المكتبة إذا أبقى على مهنته (بائع كتب)، فقد سبقت مكتبتا ميسلون والزهراء القريبتان من مكتبة نوبل إلى بيع المكان لمستثمرين في مجالات أخرى يلائم حجم رأس المال العقاري الكبير الذي ارتفع إليه ثمن تلك المحلات.

هذه الحال، حسب خضور، ستؤدي إلى نشوء مكتبات من نوع جديد متعدد الأغراض: مكتبة تعرض الكتاب وتوفر خدمة النت، وتوفر أجهزة الكومبيوتر لمن يريد أن يعمل، وقاعات محاضرات، بالإضافة بوفيه تقدم مشروبات ساخنة وباردة وخدمات أخرى.

هذا النوع من المكتبات سيتطلب دعماً اجتماعياً من البلديات والمؤسسات الثقافية الرسمية يُمكِّنها من أداء دورها الثقافي.

 

  انهيار متسارع

 إن تضاؤل أهمية المكتبة الورقية أمر مؤسف ويعطي انطباعاً بتراجع عصر التنوير ونهاية العصر الذهبي للكتاب الورقي، هذا ما يراه الكاتب ناظم مهنا، الذي أكد أن الكتاب يعاني من غلاء الطباعة وكلفتها العالية بالإضافة إلى غلاء المعيشة التي جعلت اقتناء الكتاب وشراءه أمراً صعباً..

ويرى مهنا أن المكتبة الورقية تشهد، للأسف، انهياراً متسارعاً ومتوقعاً، فالمكتبة في العصر الرقمي تراجعت أهميتها وصارت تشكل عبئاً وتشغل حيزاً مكانياً في الشارع وفي المنزل، في الوقت الذي يرى فيه صاحبها أنه يمكن استثمار هذا الحيز بمردود أعلى..

 

مازال هناك قرّاء

 هذا الإغلاق هو نتيجة لتكاتف الظروف، حسب ما ترى الكاتبة أريج بوادقجي، فغلاء الورق وأجور الطباعة من جهة، وضعف مردود المواطن المثقف من جهة أخرى، وهذا لا يدل إطلاقاً على أن أصحاب الشغف بالقراءة قد تلاشوا، حسب بوادقجي، فما زال هنالك قرّاء، من الكبار والصغار، شرط توافر المحتوى الراقي والذي يتناسب مع الإمكانيات، مؤكدة أننا دائماً نحنّ للأصل، وهو الكتاب الورقي، لكن عندما لا يتوافر الكتاب الورقي نضطر للرجوع إلى الكتاب الإلكتروني، وتتساءل: هل في قادم الأيام سنتمسّك بالأسهل، أم بالأقرب إلى القلب والعين والروح..

 

ضعف حركة الشراء  

تعلقه بالمكان وبالكتب يبعدان عنه فكرة استثمار المكتبة، هذا ما أكده محمد حسين، صاحب مكتبة منذ عشر سنوات، موضحاً أن المكتبة تعاني واقعاً اقتصادياً صعباً في الفترة الأخيرة نتيجة ارتفاع تكاليف طباعة الكتاب وارتفاع ثمنه بالمقابل، وبالتالي ضعف حركة شراء الكتب، ما جعله يتجه أحياناً لبيع الأدوات المتعلقة بمستلزمات المدرسة والطلاب من كتب مدرسية وقرطاسية وأقلام..

 

بيت دافئ

 لمكتبته روادها القدامى الأوفياء لها منذ زمن بعيد فهم يرتادونها باستمرار ويشترون الكتب التي يريدونها مباشرة أو من خلال الطلب، هكذا يصف فارس الخضر حال المكتبة، ويؤكد أن للكتاب الورقي راغبيه الذين يحرصون على اقتنائه وباستمرار، وخاصة الشباب، ورغم الصعوبات المادية التي تمر بها المكتبة ببعض الأحيان يؤكد ارتباطه الشديد بمكتبته وبروادها الدائمين ولا يمكن أن يتخيل نفسه خارجها يوماً وسيسعى جاهداً كي تبقى بيتاً دافئاً بأوراقه لنشر الفكر..

 

لا ريب أن الحركة الثقافية قد تضررت من آثار الحرب وتبعاتها، أضرار لم تقف عند ضعف المشهد الثقافي وإنتاج الكتاب والترويج له، بل طال ضررها كل مشهد، الأمر يحتاج خطة واضحة المعالم تأخذ بعين الاعتبار، ليس إنتاج الكتاب فقط، بل الترويج والحفاظ عليه والاهتمام بكل ما يتعلق به، وتطوير المكتبات بما يتناسب مع الواقع الاقتصادي لصاحب المكتبة وللقارىء على حد سواء، هنا يبرز دور المؤسسات الثقافية من أجل تقديم الدعم الكافي لهذه المكتبات لتتمكن من أداء دورها الثقافي كما يجب.

 

البعث ميديا – هديل فيزو