ثقافة وفن

“سمسق”.. حَفنة مآسٍ بين دفّتي كتاب

مآس يوميّة، من فقد أحبّة وأصدقاء إلى فقدان الأمن الروحي والمعيشي والجسدي بزمن تضافرت فيه الحرب وجائحة كورونا مرخية بظلالها على حياة الناس، جُمعت وبوّبت بين جلدتي رواية “سمسق”، التي بدأتها كاتبتها من حيث النّهاية لتعود بتسلسل الأحداث عبر شريط الذكريات الذي يستحضر شخوص القصة في فترة ربيع ما قبل الماضي، في حي باب توما الدمشقي، الذي لم يغادره إلا القليل من ساكنيه نتيجة استهدافهم بالقذائف، مؤكدين تمسّكهم وتشبّثهم ببلدهم في مواجهة الإرهاب.

حاولت جيهان” نسيان تاريخها المؤلم، ولكن أنّى لها ذلك، ما إن تعود إلى غرفتها بعد سفرها إلى بيت عمتها في لبنان للاستدانة لتسديد ما تفرضه عليها “أم ياسمين” من زيادة في الإيجار، بعد أن فقدت منزلها في “زملكا” جراء قذائف الغدر، أيام قليلة تمضي يأتيها نبأ وفاة زوج عمتها بعد إصابته بالكورونا، فتعيش هاجس العدوى لها حينما حاول اغتصابها، هاجسها هذا بددته فرحة إحساسها بالموت حيث الراحة من أجرة البيت والطعام والشراب وفاتورة الانترنت وغيرها مما قضّ مضجعها.

تتسارع الأحداث وتصحو “جيهان” في بيت جميل ملؤه الأزهار، تسأل نفسها أين أنا؟ تجد يداً حانية تلمس يدها وتداعب شعرها، ترى العجوز الميتة التعابير الخالية من الملامح ترمقها بعيني الرأفة والرحمة، هي “أم ياسمين” التي أغرقتها بحنانها واهتمامها خلال فترتها العصيبة التي قضتها طريحة الفراش إثر إصابتها بالكورونا، ورغم توقع “أم ياسمين” بانتقال العدوى إليها إلا أن إصرارها على ممارسة الحياة بطقوسها المعتادة، يلقّن “جيهان” درساً عميقاً فحواه ألا نتسرّع في الحكم على الأشخاص من خلال أشكالهم وتعابيرهم.

تشاء الأقدار أن تقود “جيهان” إلى غرفة نوم “أم ياسمين” فيصدمها الشبه الكبير الذي جمعها وصاحبة الصورة المعلقة على الحائط، ربما كانت صدمتها  هذه بداية لاكتشاف سرّ تنقشع خيوطه مع تسلسل الأحداث، تخبرها “أم ياسمين” بأن صاحبة الصورة ابنتها “ياسمين”، التي عادت روحها إلى البيت وإلى الوجود بمجيء “جيهان” لاستئجار الغرفة، ومحاولتها رفع الإيجار خشية التعلق بها ورحيلها بعد انتهاء العقد، والعودة إلى حالتها المحطمة التي عاشتها بعد فقدان ابنتها.

تعود الخالة مريم بشريط ذكرياتها إلى ابنتها “ياسمين”، أو “سمسق” حسب ما سمّاها والدها وذلك نسبة إلى الاسم القديم لشجرة الياسمين باللغة العربية، التي استشهدت في تفجير إرهابي هزّ جرمانا، بعد أن تزامن تواجدها مع رفاقها المتطوعين في خدمة الهلال الأحمر لنجدة الناس.

تتسلسل الأحداث بشكل اطرادي، متحسرة “جيهان” على حظ أمها العاثر بزواجها الأول من رجل كسول وطلاقها منه بعد إنجابها طفلين ووفاة أحدهما، وبقاء الآخر مع أبيه الذي سافر به إلى أميركا بعد كسب حضانته.

يلتم شمل الأم بابنها آدم” بعد ثمانية عشر عاماً، سعادتها العارمة قتلتها خطيئة “آدم” وأخته “روان” ذات الخمسة عشر عاماً، تنزوي أمي وتستسلم للقهر لتبقى رهينة تضرعاتها وصراخها علّها ترفع الغمّة التي ألمّت بها.

لا تُغفل الكاتبة التطرق لبطولات الجيش العربي السوري في مكافحة الإرهاب، من خلال استحضار “جيهان” لذكرى استشهاد زوجها “نوار”، إثر محاصرتهم للمسلحين واشتباكهم معهم بالسلاح الأبيض، بعد غرسه سكينه في صدر مسلح حاول طعنه من الخلف فيلقيه أرضاً، فيفاجأ “نوار” حين يتأمل وجه القتيل بأنه صديقه “عامر”..

بشغف ودونما شعور بالملل تتسارع الأحداث، ترتفع حرارة الخالة مريم إلى ذروتها يرافقها سعال شديد وشعور بالاختناق وتعرّق وانهيار في جسدها، ورغم لفظها لأنفاسها الأخيرة، أسرّت لـ“جيهان” قصة هربها مع الشاب الذي أحبته وزواجهما رغم معارضة أهلهما باعتبارها مسيحية وهو مسلم وهدر دمهما، وخيبة أملها بزوجها الذي رفع أشرعة الرحيل بعد أن أفلت يدها ودفعها من القارب إلى عرض البحر لتصارع الغرق.

تسافر مع أهلها إلى أمريكا وتكتشف بأنها حامل وتصر على إجهاض الطفل الذي قابله طبيبها بالرفض، ماسكاً بيدها إلى بر الأمان عارضاً الزواج عليها، لتختم سلسلة اعترافاتها بأن “ياسمين” أختها، وبأن الخالة “مريم” عرفت هذا منذ أن أتت “جيهان” لاستئجار الغرفة عبر الشبه الكبير الذي جمع الفتاتين، ومن خلال اسم الأب على عقد الإيجار.

رواية “سمسق” للكاتبة فاتن ديركي، تستحق القراءة بجدارة لسردها الشيّق العابق بشذا الياسمين الشامي، وملامستها لشجون شخوص الرواية بدقة متناهية، إضافة للتنويه الذي حصلت عليه لجودتها في جائزة «التكافل الاجتماعي في زمن الكورونا» للإبداع الروائي 2020.

 

البعث ميديا || قراءة ليندا تلي