هديّة الصّباح وكلّ الأيّام
شموع كثيرة تضاء للسيدة فيروز في عيد ميلادها، لكنها أقل بكثير من الشموع التي أضاءتها طيلة أعوامها بصوتها الملائكي لتنير دروبنا، فلم يكن يوم واحد حكراً لها، وإنما كنا نمشي معها يومياً على ضوء القمر، ونسافر معها برحلات بعيدة إلى النجوم فأصبحت العيد لكل يوم.
بدأت مشوارها بعمر الـ 18، ذهبت سيراً على الأقدام بعد أن أنهت غسل الصحون في منزل العائلة الكائن في حي زقاق البلاط في بيروت، ذهبت إلى إذاعة لبنان، سألها حليم الرومي عن اسمها، فقالت: نهاد حداد.. بعد سماعها قال لها: اسمك الفني سيكون فيروز.. لأن صوتك كالأحجار الكريمة نادر مثل الفيروز.
ومنذ تلك اللحظة بدأت لتحيي كل الحروف برنيمها، فعشنا معهاآخر أيام الصيفية ودخلنا معها رحلة أيلول بأوراقه الصفر، ونقلتنا إلى الشتاء بكل بساطة بصوتها الدافئ متناسين قسوته وبرودته ومستمعتين بانتظاره على المفرق نحتسي القهوة تحت الشمسية.
حنين فيروز الذي نعيشه كل يوم، يرعش الأرواح، تنهل به الأوطان جرعات كبيرة من الأمل الذي تزرعه بصوتها الدافئ، وضعت السكينة في هذا الوجود المملوء بالصراخ والنزاع والعراك..
الفيروز في معجم اللغة حجر كريم غير شفاف وهو ما لا ينطبق على نهاد، فالأخيرة هي الحب والاحترام والجمال وكل هذه الصفات شفافة لا يمكن إلا الإحساس بها، وبعيداً عن هذه الجدلية حول الاسم لا يمكننا تقديم هدية تليق بسفيرتنا إلى النجوم، فالهدايا الجميلة لا تصل أصحابها، بل تبقى في القلب أو على الورق أو ربما على الأبواب والجدران والجرائد في أحسن الأحوال..
المعروف أن فيروز ترعى الفقراء.. أغانيها هدايا يومية لهؤلاء الذين لا يملكون شراء الفرح، لأصحاب الأيادي الخشنة التي لا تملك سبيلاً للسعادة سوى كبس زر المذياع صباحاً والاستمتاع بما تجود به حنجرة تلك الراعية للفقراء..
ستة وثمانون عاماً كانت شريطاً لشعر الرحبانيين، كانت برعماً لمسته الريح فأبكت وأضحكت الأخطل الصغير لا حزناً ولا فرحاً. وإن صح القول كما كتب أحدهم على صفحات التواصل الاجتماعي: لَم تولد فيروز في21 تشرين الثاني، وإنما تُولَد كل صباحٍ فِي دكانة بائع الخُضار.. وتولد في كُلِ بيتٍ بجانب القهوة الصباحية، فَيروز تُولد في كلِ يوم، بينَ عاشقٍ ينتظرُ حبيبته في حديقة الجامعة.. وتولد في كل شتاء.. مَع المطر ومع الثلج.. فيروزُ تولد كل يوم في معظم مقاهي دمشق القديمة، وتولد في كل يوم لدى موظفٍ يضعُ سماعته الصغيرة وهو في الطريق إلى العَمل.. فَيروز تولد في كل لحظات الهدوء، ولحظات السعادة.. في لحظات الاشتياق، ولحظات البكاء.. في الأعياد، وفي لحظات الخوف.. وِلادة كُل يوم جديد، هيَ ولادة لفيروز، فيروز والحياة، وِلادة واحدة.
جمان بركات