المناخ وإشكالية التنازلات
لم تتوقف مراكز الأبحاث العلمية المتخصصة بالفضاء والمناخ عن تقديم دراساتها وتقاريرها عن تأثير التغير المناخي المدمر للكرة الأرضية. تلك الدراسات لم تكن ضرباً من خيالات هؤلاء العلماء والباحثين والدارسين، فقد أصبحت حقائق نعيشها على الأرض ونعيش مآسي كوارثها وأخطارها، وإن كان ذلك بمستويات متعدِّدة ومختلفة حسب المناطق الجغرافية وتوزعها.
على مدى السنوات الماضية، قدمت كل هيئة حكومية لكل دولة دراسات وتقارير مشابهة تنبه إلى خطورة ما سيحدث، فقد قالت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ في العالم، والتي تأسست قبل نحو ثلاثين عاماً، إنه في ظل درجات الحرارة القياسية العالية التي كانت تتصاعد بشكلٍ لافت، نشبت حرائق الغابات وما رافقها من موجات جفاف.
وتضيف الهيئة الحكومية الدولية بأنه بإمكان عوامل الطقس غير المسبوقة أن تجعل العام 2022 هو العام الذي تصبح فيه التوقعات الخاصة بالمناخ حقيقة لا يمكن تجاهلها على الإطلاق. والمثال على ذلك الإعصاران اللذان شهدتهما القارة الهندية، والانهيار الجليدي في جبال الهملايا، وهو ما اعتبره العلماء أكبر ضحايا تغيير المناخ. إنَّ الانهيار الجليدي في جبال الهملايا وحدوث موجة حر خانقة وانزلاقات تربة وفيضانات مميتة في حد ذاتها مؤشر قوي لما سيكون عليه المستقبل.
لقد ساهم واحد وخمسون ممثلاً لدولهم في اجتماعهم الذي عقد في لندن قبل فترةٍ وجيزة في النقاش الدائر حول العقبات القائمة أمام مسائل التمويل وطرق تحقيقها والشفافية فيما يخص السيطرة على ظاهرة الاحتباس الحراري، سيما في مراقبة الالتزامات التي تعهدوا بها بخفض انبعاث غازات الكربون، حيث إن الهدف الدائم لهذه الاجتماعات ومؤتمرات القمة التي ترعاها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ذات الصلة هو الحفاظ على درجة حرارة الكرة الأرضية عند مستوى 1,5 درجة مئوية، مقارنةً بعصر ما قبل الصناعة وانتشار غاز الكربون، وهي العتبة الأكثر طموحاً التي حددتها اتفاقية باريس للمناخ التي باتت حالياً هدفاً بعيد المنال، حسب هؤلاء العلماء.
منذ تأسيسها، تعكف الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ في العالم على جمع وتحليل الأبحاث المتعلقة بالمناخ التي تجري في كل مختبرات العالم لإلقاء الضوء على الاحتمالات المطروحة أمام صناع القرارات السياسية، وتضع على طاولاتهم أهم ما أنجزته تلك الدراسات والحلول الممكنة. وهي تسعى من وراء كل ذلك إلى جعل كوكب الأرض المهدد قابلاً للحياة. لكن المشكلة الكبيرة في قضية الاحتواء والسيطرة على ظاهرة الاحتباس الحراري أن ركيزتها الرئيسية هي الاقتناع بأهمية التعاون والالتزام بين الدول، وهذه قضية كما يبدو أنها قضية صعبة التحقيق وبعيدة المنال في المدى المنظور، فهي قضية صعبة وشائكة كونها تشمل تنازلات صعبة في الحقول الاقتصادية والسياسية والثقافية وحتى في المسائل الاجتماعية ذات الحساسية العالية.
لقد تعرض العلماء إلى ضغوط سياسية وثقافية هائلة من أجل عدم كشف الحقائق والتهديدات المناخية كاملة أمام العالم والتركيز بدلاً عن ذلك على الجوانب الأقل قلقاً، هذا ما أشارت إليه مؤرخة العلوم في جامعة هارفارد نعومي أوريسكيس، فقد حذرت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالمناخ من أن التغير المناخي سيعيد تشكيل الحياة على الأرض في العقود القليلة المقبلة، حتى في حال تمّت السيطرة على التلوّث الكربوني المسبب للاحترار، ودعت إلى القيام بتغيير جذري لتجنيب الأجيال المقبلة مواجهة وضع أسوأ بكثير مما نعيشه.
ريا خوري