ثقافة وفن

فيروز: لون فمك.. رائحته تفاح

عام إثر عام، تبقى الأيقونة “فيروز” الفنانة العربية الكبيرة، سيدة الصباحات بلا منازع، فمع صوتها المنساب كما الماء في الجدول، يصير لفنجان القهوة الصباحي حكاية في كل يوم، ومع كل حكاية تخلق ذكرى، تعيد أم زياد نشر عبقها في الأجواء عندما تغني؛ لتنداح من صوتها الينابيع، ومن بين المقامات التي تؤديها ببراعة نادرة، ينسفح الصبح غاسلاً القلوب والأحلام من كدر الأمس.

وفي دمشق، المدينة المشغولة أبداً بتحضير الفطور للسماء والورد الجوري والياسمين، لازال الصباح على حاله: أمهات يستيقظن قبل الحمام، لتجهيز الأولاد للمدارس، ثمة أب كالحزن تبسم ثم نهض “بعد قليل” على صوت الأولاد، المطر يغسل المدينة من غبار النوم، وفي الخلفية يجيء صوت فيروز من “الراديو” وكأنه من المكونات الطبيعية لهذا المشهد اليومي في بيوت السوريين، “جايبلي سلام عصفور الجناين/جايبلي سلام من عند الحناين”، “كتبت إليك من عتب/رسالة عاشق تعب”، “سألوني الناس عنك يا حبيبي، كتبو المكاتيب واخدها الهوى/ بيعز علي غنيك يا حبيبي، لأول مرة ما منكون نسوا” وغيرها من الأغاني التي تخرج من “شبابيك” المنازل، من باحات المدارس والثكنات العسكرية، من المحال التجارية وحتى من “البسطات” المتوقفة في الشوارع، ومن كل مكان تقريباً، لتتمشى الألحان البارعة بين الأزقة وفوق الأرصفة، بينما صوت “أم زياد” يعيد ترتيب المدينة التي مرّ عليها ليل طويل.

لكن ما هو السر الذي يجعل من أغاني فيروز، المولودة تحت قمر الرضا، في بيروت عام 1935، تلج كل القلوب ومن كل الأعمار بكل رقة وعذوبة؟ ما الشيء الموجود فيها، لتكون لها هذه السطوة على الأمزجة مهما اختلف حالها؟ ما سبب هذه النجومية الحقيقية، التي لم يخفت وهجها من عشرات السنين، لا بل إنه يزداد ألقاً؟

السؤال الذي شغل بال الكثير من النقاد والمختصين وغيرهم أكثر من الناس، وقيل عنه وكتب فيه ما لا يحصى،ما من إجابة حاسمة عليه حتى اليوم، هل هو صوت فيروز الأنقى من النسيم، هو ما يعطي هذا الإحساس بالألفة والحنين، بالدعة واللطف، بالمشاعر الإنسانية الراقية التي تُحرك عُربه مياهها الراكدة؟ أم لعل السر يكمن في كلمات الأغاني البديعة التي شدت بها، لكبار الشعراء ومن مختلف الأزمنة الشعرية العربية: “أحب من الأسماء/قيس بن الملوح، المصطاف والمتربعا/الصمة القشيري، حامل الهوى تعب/أبو النواس، الأندلسيات/التراثيات والفلكور/سعيد عقل/ميشيل طراد/بشارة الخوري/زكي ناصيف/جبران خليل جبران/جوزيف حرب/الأخوين رحباني/ وكثر غيرهم، أم لعلها الألحان البديعة، تلك التي “تدوزن” مقامات الروح والقلب، والتي صاغ موسيقاها أهم الملحنين في العالم العربي: سيد درويش/محمد عبد الوهاب/فيلمون وهبة/ حليم الرومي/زياد الرحباني/ محمد محسن/سليم الحلو/زياد الرحباني/ وكثر غيرهم؟

وبينما لا يمكن الوقوف على جواب شاف لهذا السؤال، يمكن لنا من خلال واحدة من الملاحظات المهمة المتعلقة بالسيدة فيروز، أن نستشف جانباً هاماً من الجوانب التي جعلتها حبيبة الجميع..

على النقيض تماماً، وفي كل شيء تقريباً، تجيء حالة فيروز الإنسانية والفنية، مفارقة للكثير من “المغنيات” ذوات الخصال الذكورية التي لا يفضلها “نيتشه” -1844-1900-في المرأة، إذ إنه يعتقد في بعض جوانب فلسفته، أن كل امرأة تحمل هذه الخصال،هي بالتأكيد ليست ذات أنوثة وأمومة وغيرها مما يتعلق بشؤون المرأة؛ وعلى العكس من “نجمات” الأغلفة،تتموضع فيروزعلى مسافة هائلة في البعد الفكري والفني والقيمي عنهن، مسافة جعلتها سفيرتنا إلى النجوم، بينما بقين هن ينتظرن أغنية ضاربة، أو مُنتج كريم، يعنيه “اللوك” أكثر مما تعنيه الأغنية وما فيها!

أما السبب في هذا البون المهول، إن كان في القيمة الفنية أو الإنسانية والأنثوية أيضاً، يتجلى واضحاً في الفروق الكبيرة بين الأغاني التي غنتها أم زياد بتاريخها العريق، وبين ما يُغنى من اليوم ،بل ومنذ أكثر من 3 عقود تقريباً، غناء مكتظ بالعدائية أحياناً والتهديد والوعيد، مليء بالبعد والهجر والتحدي، وهذا ينعكس بطبيعة الحال، عن تلك الخصال الذكورية، لذا فمن الطبيعي أن تكون موجودة فيما يقدمنه من أغان، لا تحيا في بال الناس إلا أيام معدودات، حتى تصبح تلك الأغنية أو غيرها، وكأنها غبار الأمس الذي لم يعد موجوداً.

السيدة فيروز بعيدة في معظم نتاجها الفني عن تلك المواضيع الاستفزازية، بل والمزعجة، إنها ببساطة تغني ما يشتعل له قلبها، ما يبتكره حدثها الأنثوي الصافي، ما ينبع من مشاعرها حتى تلك الباطنية التي لا نعرفها، لكن ثمة أدلة عديدة، تخبرنا بأن مظهرها، يشبه بل هو نفسه مخبرها، وأغانيها الكثيرة، تشهد بأنها بريئة من تلك الخصال الذكورية القاسية، بل هي أقرب ما يكون إلى الكمال الأنثوي حتى بأبسط التفاصيل؛ ندرة إطلالتها التلفزيونية، كرهها الشديد للأضواء، وبعدها عن التدخل كمغنية من العيار الجميل، لا بالسياسة وحواكيرها الضيقة، ولا بغيرها من المواضيع التي لا علاقة لها بفنها وحياتها كإنسانة وفنانة معاً، وهي بالتأكيد تأثرت بما يجري في بلادها، لكنها بالتأكيد أيضاً، لم تذهب لتصبح محللة سياسية وفنية، بل فضلت أن يستمتع الملايين من محبيها بفنها الذي فاقت شهرته الآفاق.

المقارنة وإن كانت غير عادلة من الناحية الفنية البحتة، فشتان بين ما قدمته نهاد حداد خلال مسيرتها الفنية البهية، وبين العديد من التجارب الفنية النسائية المهمة في الساحة المحلية والعربية، إلا أنها توضح في بنيويتها، واحدة من المفارقات البينية العميقة على المستوى السيكولوجي، بين الطبيعة الحسية لسيدة الصباحات بلا منازع، وبين الطبائع “الغريزية” التي كانت هي الصورة الرئيسية، لنتاج فنانات “الميديا” عموماً، رغم أن أهم وأجمل ما غنته فيروز، يندرج تحت النوع العاطفي، لكنه جاء بسيطاً، مؤثراً، راقياً، يرتقي بالمشاعر، ولا يحط من الشأن الإنساني في أي شكل من أشكاله.

من الأغاني البديعة التي غنتها فيروز وتحمل في مفرداتها ولحنها وعبقها الخاص فيها، كل تلك الأنوثة المختبئة في ظلال الكلام، أغنية “اشتقتلك”؛ الأغنية التي تذهب في موضوعها نحو ضرورة الكلام والبوح بالمشاعر، التي يتقصد البشر لسبب ما أن يبقوها دفينة صدورهم على أن تخرج لأصحابها، ففي ذلك عند أهل الشرق سفح لماء الوجوه، وخضوع للحبيبة، لكن أم زياد تُعلّم بأغنيتها أصحاب المشاعر العاطفية الدفينة، خصوصاً الجنس الناعم، بألا يصمتن عن مشاعرهن حتى لو فعل الطرف الآخر ذلك، بسبب مركبات نقص عديدة، لا تحضر في الأغنية، لكن الإيحاء إليها موجود في الكلام نفسه، وها هي تخبر حبيبها، بأنها اشتاقت له، رغم البعد الذي يبدو حاضراً بقوة أيضاً في الكلام، بل إنها تطلب إليه إن كان لا يريد أن يقول أنه “اشتقاها” بأن يسمعها منها “طيب أنا عم قلك اشتقتلك”، دون عري أو تهديد ووعيد، وبلا زعيق ولا صراخ تكاد تنفجر الأوردة جراءه.

صوت فيروز، السرّ الآخر من أسرار خلود هذه الأغنية، هو بالتأكيد ليس مطرح حديث وتحليل ونقاش، ولكن يمكن الإشارة إلى شيء لافت في هذه الأغنية، وهو دمج فيروز وبدقة عالية لصوتها المستعار الذي تغني به عادة، ولصوتها الطبيعي، حيث جاءت “الآهات” التي رافقت الجمل الموسيقية وكأنها آلة موسيقية أخرى فيها جودة من طبيعة نادرة، هذا الدمج على صعوبته وضع كل طاقة فيروز في الأداء، لتجيء النتيجة مبهرة وخالدة، والكلام الذي يشبه في بساطته الظاهرة، وتعقيده الشعري الفذّ كلام عاشقة في رسالة، صار بصوت فيروز هو روح هذه العاشقة ونبضاتها، صار هو هي، وهنا أعود للقول بأن شعرية “حرب” الصافية في هذه القصيدة، قلّ مثيلها بين شعراء المحكية.

هكذا ارتبطت هذه السيدة اللبنانية الفاتنة في الوجدان، وهكذا سيبقى صوتها ناقوساً من ضوء، يدق في عوالم سحرية، بينما صورتها الأقرب إلى الخيال تمنح ألفة حميمة لا وصف أو تعريف يدانيها أو يؤطرها.

فيروز وردتنا اللطيفة جميعاً، صباحنا الذي يشهر سيف جماله بوجه كل هذا القبح، فيروز، دواخلنا الدفينة، وألفتنا التي نخشى أن نُظهرها، فتتكفل هي بالموضوع، كوني بخير دائماً.

تمّام علي بركات