العقلية الأمريكية وانعكاساتها داخلياً
على مدى العقدين الماضيين، وبينما كانت القوات العسكرية للولايات المتحدة تدمر العديد من الدول، كانت أزماتها الداخلية تتفاقم، حيث تواصل الإدارات الأمريكية المتعاقبة، منذ الهجمات على مركز التجارة العالمي والبنتاغون في 11 أيلول 2001، غزوها للعديد من البلدان التي تقع داخل المناطق المضطهدة في إفريقيا وآسيا، وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي.
بدأ التدخل الأمريكي في أفغانستان في أواخر سبعينيات القرن الماضي بشكل سري، عندما عملت إدارة الرئيس الأسبق جيمي كارتر على تقويض الحكومة ذات التوجه الاشتراكي والتي كانت متحالفة مع اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية آنذاك، وفي مطلع ثمانينيات القرن الماضي، صعّدت إدارة الرئيس ريغان من التدخل في الشؤون الأفغانية من خلال التدريب والتمويل وتوفير الغطاء الدبلوماسي للمعارضة المسلحة في البلاد، الأمر الذي مكّن المسلحين من تأسيس تنظيم “القاعدة”.
وهنا لابد من الإشارة، إلى أن هذه القوى نفسها التي تسميها واشنطن اليوم “إرهابية” كانت في الواقع نتيجة ثانوية للإمبريالية. وفي تشرين الأول من عام 2001، انضمت العديد من دول الناتو الأخرى إلى الولايات المتحدة في احتلالها لأفغانستان، حيث نشرت ألمانيا وفرنسا وكندا وبريطانيا من بين دول أخرى، قواتها في أفغانستان كجزء من العملية العسكرية التي يقودها البنتاغون، لكنها تكبدت خسائر فادحة في الحرب ضد الأفغان الذين يقاتلون لإنهاء وجود القوات الأجنبية.
بعد مضي 20 عاماً على غزو الولايات المتحدة لأفغانستان، تشير الإحصاءات الرسمية التي قدمتها الحكومة الأمريكية إلى مقتل ما يقرب من 2300 جندي في أفغانستان، وإصابة 30 ألفاً تقريباً، ومع ذلك، لا تأخذ هذه الأرقام في الاعتبار عدد الأشخاص الذين ماتوا فيما بعد متأثرين بجراحهم أو غيرهم ممن لقوا حتفهم بسبب الأمراض النفسية الناجمة عن الخدمة في حرب إمبريالية غير عادلة.
قدرت بعض المصادر عدد الأفغان الذين قتلوا منذ عام 2001 بنحو 71 ألف شخص، وهو تقدير على الأرجح متحفظ نظراً لعمليات القصف المكثفة التي نفذها البنتاغون وحلفاؤه في الناتو.
وبحسب دراسات أخرى حول تأثير الحرب، لقي أكثر من 71000 مدني أفغاني وباكستاني حتفهم كنتيجة مباشرة للحرب، كما أدى تخفيف الجيش الأمريكي في عام 2017 من قواعد الاشتباك الخاصة المتعلقة بالضربات الجوية في أفغانستان إلى زيادة هائلة في عدد الضحايا المدنيين. كما قامت وكالة الاستخبارات المركزية بتسليح وتمويل الجماعات الأفغانية المسلحة المتورطة في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وقتل المدنيين، وتلويث الأراضي الأفغانية بالقذائف غير المنفجرة التي تقتل وتصيب عشرات الآلاف من الأفغان، وخاصة الأطفال، أثناء تنقلاتهم اليومية.
أدت الحرب إلى تفاقم آثار الفقر، وسوء التغذية، وتردي المرافق الصحية وتعذر الحصول على الرعاية الصحية. ونتيجة لذلك، فإن هذا الانسحاب المعلن، بغض النظر عن أفراد الجيش والاستخبارات الذين سيبقون في أفغانستان لحماية السفارة الأمريكية ومطار كابول ومواصلة تدريب قوات الأمن المحلية التي نصبتها واشنطن، كانت نتيجته تدمير البلاد.
منذ عام 1990، حاصرت الإدارة الأمريكية العراق، حيث عانى الشعب العراقي بشكل كبير بسبب العقوبات الصارمة التي فرضتها الأمم المتحدة برعاية واشنطن. وبحلول عام 2003، غزت إدارة الرئيس دبليو بوش العراق، ومنذ ذلك الحين، ماتزال القوات الأمريكية موجودة وإن كانت بأعداد أقل.
وبعد محاولات زعزعة الاستقرار في ليبيا وسورية، أوجدت الولايات المتحدة تنظيم “داعش” الذي يشن هجمات على الحكومات المدنية في العراق وسورية واليمن، بينما لم تهاجم المجموعة، في أي وقت من الأوقات، الكيان الصهيوني الذي يعد المصدر الرئيسي لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، حتى إن الولايات المتحدة، دعمت الكيان الصهيوني من خلال مساعدات مباشرة بمليارات الدولارات ومساعدات عسكرية وصفقات تجارية تفضيلية وغطاء دبلوماسي.
وبحسب الإحصاءات الرسمية الأمريكية، قتل4500 جندي أمريكي في العراق، بينما في الوقت نفسه قتل ما يصل إلى مليون عراقي أو أكثر على الرغم من عدم اعتراف البنتاغون بهذه الأرقام، ومع ذلك تواصل الولايات المتحدة الجهود لزعزعة استقرار العراق بشكل يومي.
وفي سورية، فشلت الولايات المتحدة 2011، حيث أرسلت إدارة أوباما القوات الأمريكية إلى سورية، وفي الفترة نفسها كانت تقوم بعمليات قصف دورية، ما أدى إلى نزوح ملايين السوريين والعراقيين داخلياً وخارجياً. خلال الفترة الأخيرة من إدارة ترامب، تم نقل القوات الأمريكية إلى المناطق المحيطة بحقول النفط السورية، حيث تشير التقارير إلى أنه يتم الاستيلاء على الموارد واستخدم الأموال لتمويل الجماعات الإرهابية التي تقاتل هناك. وفي ظل الإدارة “الديمقراطية” الحالية للرئيس بايدن، يستمر احتلال وقصف مناطق في سورية والعراق، وعلى الرغم من عدم دعوتها من قبل أي من حكومات هذه البلدان، تتواجد القوات الأمريكية منذ عقود.
على الرغم من ادعاء الولايات المتحدة المتكرر، أن أهدافها من غزو واحتلال المناطق والبلدان، استعادة الاستقرار الاجتماعي والديمقراطية، إلا أن ملايين الأمريكيين هم ضحايا لنظام العدالة الجنائية الذي يستخدم الشرطة والمدعين العامين والقضاة والسجون، وإضفاء العسكرة المكثفة للتعليم وإنفاذ القانون. لذلك بات من المؤكد أن النظام الرأسمالي والامبريالي القائم في الولايات المتحدة هو مصدر معظم الاضطرابات في العالم في القرن الحادي والعشرين.
سمر سامي السمارة