استمرار فضائح أمريكا وجرائمها
د. عبد اللطيف عمران
صار أحرار العالم وشرفاؤه على امتداد المكان والزمان يرون فضيلة في أن يكونوا أعداء للولايات المتحدة، ذلك نظراً إلى جرائمها المستمرة بحق الشعوب الأفروآسيوية والأمريكية اللاتينية، وليس الأوروبيون بمعزل عن مخاطر هذه الجرائم، فقد كُتبت مئات الأبحاث التي تبيّن هذا وتحصيه بالعدد منذ القرن الماضي ولذلك تقيم الإدارة الأمريكية معرضاً مفتوحاً لشراء الذمم فتفتح ذراعيها الآثمتين باستمرار لاحتضان أصحاب الضمائر الرخيصة، فيتوافد إليها باعة الأوطان ومخربوها وقطعان المعارضة من شتى البقاع.
وشواهد هذا أكثر من أن تُعد فقد نشرت النيويورك تايمز في الأسابيع الماضية عدداً من جرائمها المرتكبة بحق الشعب السوري وآخرها، بالأمس جرائم وحدة تالون أنفيل، إضافة إلى ما يضجّ به الرأي العام العالمي حول مصير جوليان أسانج الذي كشف وفضح بدقة ووثوقيّة جرائم مؤسسات الإدارة ضد الإنسانية.
كثيرون يرون أن الولايات المتحدة تعتمد في استراتيجيتها المضادة للتطلّعات الإنسانية، ولميثاق الأمم المتحدة، على النزعة العسكرية، وعلى الحصار والعقوبات، هذا صحيح لكن الحقيقة فإنّ القرار الاستراتيجي الأمريكي من زمن الآباء المؤسّسين للولايات المتحدة يعتمد على نزعة فلسفيّة مؤيّدة للغطرسة والهيمنة، وللفكر والسلوك الإبادي منذ الهنود الحمر، وفيتنام وصولاً إلى مجازر العرب والمسلمين في العالم.
منذ زمن طويل والقرار الاستراتيجي الأمريكي المعادي لحقوق الإنسان يعتمد على نسق معرفي فلسفي متكامل نظريةً وممارسةً، يعمل على تأصيله باحثون كبار ذوو خبرة ومعرفة وجهود خبيثة، ومعهم مراكز أبحاث ودوائر أكاديمية وإعلامية تؤيد جميعها تلك النزعة العسكرية. بعض هؤلاء الباحثين أصبحوا مستشاري الأمن القومي الأمريكي من أمثال بريجنسكي وفوكوياما، وهنتنغتون فأصدروا مؤلّفات معروفة عانت شعوب العالم من ويلات نظرياتها وتطبيقاتها، ولم تترك الإدارة الأمريكية مفكّراً غربيّاً مطواعاً إلا استدعته واستثمرته خيراً، أو شرّاً، من هؤلاء البريطاني برنادرلويس، والفرنسي جاك دريدا، والألماني هابرماس… وحين هاجر الفيلسوف ليو شتراوس من ألمانيا إلى الولايات المتحدة ومات فيها عام 1973 أعاد بعد عقدين من الزمن استراتيجيو الإدارة الأمريكية إحياء فكره وأبحاثه ومؤلّفاته، فأسهم بعد موته في صياغة الخط السياسي المتشدّد للمحافظين الجدد ذوي النزعة التي حطّمت النزعة الإنسانية في الأنساق الفلسفيّة لمرحلتي الحداثة، وما بعد الحداثة، وقوّضوا المرحلتين معاً، وبنوا المرحلة الثالثة: (بعد ما بعد الحداثة – مرحلة المحافظين الجدد) المقترنة بالتكنولوجيا الرقمية ومفرزاتها التي وظّفوا القسم الأكبر منها لخدمة نزعة القطبيّة الأحادية والهيمنة وصولاً إلى (شرطي العالم بمعزل عن إرادة شعوبه وحقوقها ومصالحها).
لذلك لم يصدر قرار استراتيجي أمريكي دون أن يكون مبنيّاً على زعزعة استقرار العالم، ولم نجد طيلة قرن مضى مشكلة إقليمية أو دوليّة في أربع جهات الأرض إلا والولايات المتحدة طرف أساسي فيها وتعمل على استثمارها لضرب توجّهات الحكومات نحو التعاون والسلام والصداقة والتكامل الإقليمي والاستقرار الدولي، وهذا ليس بسبب تجارة الأسلحة فحسب، بل إنها الذهنيّة الأمريكيّة الذرائعيّة المحضة البعيدة تاريخيّاً عن القيم والأخلاق، دون أن يعني هذا عدم الإسهام في التقدّم العلمي والتكنولوجيا الحديثة، لكن بالمقابل هناك ما يؤكّد أن الولايات المتحدة تنفق سنوياً على تعزيز نزعتها العسكرية المؤصلة استراتيجيّاً وفلسفيّاً ما يفوق إنفاق الدول العشر الكبار في العالم.
لا أحد في العالم ينكر جرائم الإدارة الأمريكيّة – وليس الشعب الأمريكي – الراهنة المستثمرة في الإرهاب الدولي والتي تكاد تجعله محصوراً في المسلمين خاصة بعد تلاشي اليسار العالمي، وها هو اليوم بايدن يُسفر عن وجه لم يكن معلناً ولا متوقّعاً أثناء طروحات حملته الانتخابية بالرغم من مناصرته السابقة لجرائم الصهيونية، وللحرب في العراق وأفغانستان فيعمل على الاحتراب في أوكرانيا والبحر الأسود وبحر الصين الجنوبي… إلخ. ويقول: (إن الناتو مهم للغاية لنا تحديداً، ولو لم يكن موجوداً لكان علينا اختراعه)، فيطلق بهذا حرباً عالمية باردة جديدة يمكن أن تصبح ساخنةً داميةً فتعمل إدارته على ترسيخ موقفها العدائي من الحكومات الوطنية في جميع أنحاء العالم، وعلى فرض انقسام عالمي جديد مقلق، ولا تكتفي أن تكون طرفاً في مشكلات العالم كلها، بل تدفع بحلفائها إلى الدخول في هذه المشكلات بغضّ النظر عن المنعكسات.
إن الأمريكان يصدرون عن قلقٍ من تصوّر نضوج الظروف العالمية لنظام عالمي جديد، لا، ولن يكونوا حجر الأساس فيه، وهذا ما سيحدث، فهناك رأي إقليمي وعالمي واسعٌ ومبني على القناعة بأن ثمن مقاومة سياسات الهيمنة أقل تكلفة من الاستسلام لها.