حاجة الإصلاح الدولي وآلياته
تشير المعطيات الدولية الراهنة في معظمها إلى أن النظام الدولي القائم والسائد لم يعد يملك القدرة على إدارة الشؤون الدولية المتوازنة، ولم يعد يملك أجوبة وحلولاً جدية متوافقاً عليها عن جوهر مسائل الأمن والاستقرار في العالم، لسبب بات ملموساً هو أزمته الحادة المستأثرة به منذ زمن. وليس هناك من حلول ومن مخارج لمواجهة هذه الأزمة، إلا عن طريق معالجة أسبابها التكوينية والبنيوية، أي المتعلقة بنظامه القانوني وهياكله وسلطات مؤسساته.
وكمدخل للمعالجة، قدمت عدد من الدول مقترحات إلى اللجان الفنية والاستشارية، من أهمها منح الدول الحق في المشاركة في التقرير من خلال “الجمعية العامة”، وإعادة تحديد وظائف “مجلس الأمن” بعد إلغاء صيغة العضوية الدائمة فيه، ومعها إلغاء حق النقض “الڤيتو”.
هذا الأمر يمثل تحدياً رئيسياً في الإصلاح المطلوب للمنظمة الأممية، وخاصة أن الكثير من المختصين يشيرون لاستحالة إمكانية تحقيق هدف إلغاء العضوية الدائمة وحق النقض، خاصة أن إلغاءهما سيلقى مقاومة من الدول الخمس الكبرى التي تتمتع بهما، بالإضافة إلى أن ميزان القوى داخل النظام الدولي اليوم، لا تميل كفته لصالح القوى المطالبة بمثل هذا التعديل الحاسم.
قد يكون في هذا التقدير الكثير من الصواب والحقيقة، ولكن في الوقت ذاته من الضروري أن ندرك أن أي استمرار لصيغة مجلس الأمن القائمة على قاعدتي العضوية الدائمة وحق النقض، هو في حكم التعطيل المادي الحاسم لأي إصلاح هدفه تمكين “الجمعية العامة” بسلطات تقريرية حقيقية، إذ سيكون حق النقض في هذه الحال، آلية لإبطال مفعول قرارات “الجمعية العامة”، بل للسطو على سلطة التشريع واحتكارها من قبل مجلس الأمن.
وبناء عليه سيكون أمام أي مسعى لتفعيل أدوار الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، أن يصطدم عند عتبة ما والمتمثلة بمصالح ونفوذ القوى المحتكرة لسلطة مجلس الأمن.
هناك من المشرعين والمختصين الدوليين، من دعا لبعض الواقعية في النظر إلى المسألة، واتباع خطوات مرحلية في مسلك تحقيق الأهداف. وضمن المنظور هذا يرى بعض الخبراء الدوليين بأنه لا بأس من قطع شوط انتقالي قبل تحقيق هدف التعديل الحاسم لنظام مجلس الأمن.
وضمن نطاق هذه المرحلة الانتقالية من الضروري أن يصار إلى الاتفاق على وجوب إلغاء قاعدتي العضوية الدائمة وحق النقض في مرحلة قادمة، وأن يتفق على زمنها ويلتزم به مقابل تصحيح أوضاع تمثيل الدول الأعضاء داخل مجلس الأمن وتحديداً التي تتمتع بالعضوية الدائمة وحق النقض.
والتصحيح الذي يعنيه الخبراء هنا هو توسيع نطاق العضوية بحيث تشمل دولاً كبرى في العالم مثل اليابان، وألمانيا، والبرازيل، والهند وإندونيسيا، وجنوب أفريقيا، وهي دول باتت ذات وزن في النظام الدولي.
كما أن التصحيح ينبغي أن يمس مبدأ النقض نفسه بحيث لا يجوز أن يكون نقضاً إلا إن كان ثلاثياً (من ثلاث دول) على نحو يكبح جماح التفرد بهذا الحق من قبل دولة واحدة، بمعنى آخر حق النقض الذي تستخدمه إحدى الدول الكبرى اليوم في حال تعارضه مع مصالحها، لا يمكن أن يستخدم في نظام التصحيح إلا بالشراكة مع دولتين أخريين.
لذلك يفترض خبراء القانون الدولي أن تصحيحاً محدوداً من هذا النوع لأوضاع مجلس الأمن ضمن فترة انتقالية متفق على زمنها من شأنه أن يضخ بعض التوازن في عمله وأن يعيد إلى دوره بعض الفعالية، وهو ما يمكن أن يعيد الثقة نوعاً ما بالمؤسسة الدولية.
ويمكن نجاح هذه الخطوة، لأن الدعوة إلى التوسيع قديمة وقاعدة مؤيديها من الدول الصاعدة تزداد، والأهم من هذا أن التطورات الجديدة الحاصلة في العقدين الماضيين، وفي مقدمتها نشوء قوى اقتصادية كبرى جديدة (معظمها من بلدان الجنوب) تفرض تصحيحاً في التمثيل يسمح لهذه القوى باحتلال المكانة المناسبة لها في مؤسسات النظام الدولي، ناهيك عن أن مطالب هذه الدول في التمثيل العادل تجد من يدعمها حتى من الدول الكبرى كما هي الحال بالنسبة إلى الصين.
مع ذلك فإن النظام الدولي سيبقى في حالة تأزم، لأنه عبارة عن صورة مصغرة لأي نظام سياسي لدولة، فمتى ما عطل سلطته الأساسية وهي السلطة القضائية _على نحو ما هو عليه حالها اليوم_ من تعطيل ناجم عن انتقاص فاضح لها ومن مصادرة دورها من قبل مؤسسات أخرى، ستبقى في حالة التأزم.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، تعد “محكمة العدل الدولية” هي الإطار القضائي في النظام الدولي، غير أن ما هو مسموح لها به في الواقع الفعلي، ليس ما يمنحها سلطة قضائية فعلية، فهي غير إلزامية في قراراتها (كما ترغب في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية)، وما تقدمه من قرارات لا يعد أكثر من كونه توصيات. فمن الطبيعي أن دورها الاستشاري الشكلي، وسحب الطّبيعة الملزمة لقراراتها، يفقدها كل دور قضائي مفترض.
والمفارقة هنا أن مجلس الأمن هو من يمارس فعلياً، السلطة القضائية في النظام الدولي، فتصديه لفض النزاعات وإصداره القرارات تحت أحكام الفصل السابع وفرضه العقوبات هو ما يؤكد أنه يمارس سلطة قضائية.
ينبغي لأي إرادة وتوجه لتصحيح مؤسسات النظام الدولي أن تلحظ الحاجة الملحة إلى الاعتناء بأمر السلطة القضائية في هذا النظام، والمساواة في المشاركة الدولية وفي التعبير عن ذلك، كما لابد لنقطة في غاية الأهمية ضمن مسار التصحيح، أن لا تبقى المؤسسات الدولية والمنظمات التابعة لها رهينة نسبة التمويل للدول الكبرى.
محمد نادر العمري