دوليسياسة

العزلة- القوة الناعمة والاستفزاز الأمريكي

تعيش الولايات المتحدة الأمريكية مأزق إعادة الألق لإمبراطوريتها حيث تسعى في ظل إدارة الرئيس جو بايدن إلى إلهاء القوى الكبرى المنافسة لها بمجموعة من النزاعات التي قد تصل لدرجة استخدام القوة العسكرية في محيطها من جهة، وفيما بينها من جهة أخرى في حرب إطارها العام بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية إعادة ترتيب العالم وفق رؤية جديدة قائمة على الانكفاء وإعادة بناء الداخل الأمريكي من أجل العودة إلى قيادة العالم عقب تدمير القوى الأخرى لبعضها في صراعها على مناطق النفوذ وعلى مصادر الطاقة.
فبايدن ذو الثمانين عاماً لا يمسك بزمام السلطة في البيت الأبيض وهفواته المتكررة إنما تدلل أنَّه ليس بسوية فكرية تستطيع قيادة إحدى القوى الكبرى عسكرياً واقتصادياً، وإنما يتم ذلك من خلال مجموعة من الخبراء والمختصين في مكتب نائب الرئيس ووزارة الخارجية بزعامة هاريس- بلانكين وغيره من مسؤولي الصف الأول، والمثير للريبة هو عدم ظهور نائب الرئيس الأمريكي كامالا هاريس بشكل كبير كما عودنا أسلافها وهي التي حازت على نسب قبول شعبية متدنية جداً في استطلاعات الرأي وصلت لحد (28%) من المستطلعين، وبتتبع السياسة الأمريكية والمهام التي كلفت وتكلف بها يلاحظ أنَّ زمام رسم السياسات الداخلية يتم من خلالها (سياسات الهجرة، وقانون التصويت الوطني). إضافة إلى كونها محط الأنظار سواء من قبل الراغبين من الحزب الديمقراطي في الترشح للرئاسة فيما لم يقم بايدن بالترشح لولاية ثانية في انتخابات /2024/، ومن قبل الجمهوريين الراغبين بتدمير نائب الرئيس كونه خصم مفترض فيسعون لتتبع عثراته خصوصاً في ظل اهتمامها بالسياسة الداخلية وإعادة ترتيب البيت الداخلي الأمريكي للانطلاق نحو العالم بقوة أكبر حسب اعتقادهم.
فبعد فشل نظريات فرانسيس فوكوياما وصموئيل هنتنغتون وبداية انتهاء الهيمنة الأمريكية في أماكن متعددة، تسعى الإدارة الأمريكية إلى العمل على وضع استراتيجية لبناء الداخل فحالة الانغماس في المشاكل العالمية من عهد بوش الابن وحتى انتهاء حقبة أوباما كانت مدمرة للولايات المتحدة الأمريكية، ولم تحمل لها إلا التراجع وتكليف دافع الضرائب مبالغ باهظة من أجل الهيمنة المفترضة على العالم فانعكس ذلك سلباً عليها، واليوم في ظل إدارة بايدن تسعى جاهدة لتطبيق مبدأ مونرو في بعض المناحي وتطبيق سياسات بوش وأوباما في مناحٍ أخرى بهدف إرضاء غطرسة قادتها وحكامها ويظهر ذلك بشكل خاص في التعامل مع الدول الكبرى على الساحة الدولية وخصوصاً في ظل تنامي الدور الروسي والصيني في ساحات عالمية كثيرة فقد عملت الولايات المتحدة الأمريكية على إطلاق تصريحات متعددة فيما يتعلق بالعلاقة مع روسيا خصوصاً في ظل المحادثات الثنائية الافتراضية بين بوتين وبايدن، وسعت من خلال عددٍ من التصريحات الاستفزازية إلى دفع العلاقة الروسية- الأوكرانية لحافة الحرب وضرب القوتين العسكريتين لأهم دولتين في الاتحاد السوفياتي السابق مما يعيق الخطط الاستراتيجية للمفكرين الروس وللرئيس فلاديمير بوتين بإعادة بناء المجال الحيوي للاتحاد الروسي المتمثل بالدول السوفياتية السابقة، وفي حال اندلاع حرب روسية- أوكرانية فإنَّها ستنعكس على العالم وستكون عبارة عن حرب عالمية صغرى تعيد إلى الأذهان الحرب الأهلية الإسبانية خلال الفترة من /1936- 1939/ وستعمل الولايات المتحدة الأمريكية من خلال حلف شمال الأطلسي لاستنزاف روسيا وتدمير بنيتها التحتية خصوصاً مع تطور صناعة الأسلحة فيها، وإلهاءها في خارجها القريب الذي بدوره قد ينعكس على روسيا وحلفائها، كما أنَّ حرباً بهذا الحجم قد تؤثر على إمدادات الطاقة والغاز والقمح عالمياً خصوصاً لدى الدول الغربية التي تتزود بالغاز الروسي عبر أوكرانيا أو من خلال مشروع السيل الشمالي /2/ قيد الافتتاح عبر البلطيق إلى ألمانيا، وبالتالي ستكون الحرب حرباً على امدادات الطاقة سيما وأن الولايات المتحدة الأمريكية قد أبدت سخريتها من هذه المشاريع وجاء ذلك على لسان نائبة وزير الخارجية فيكتوريا نولاند معتبرة أنَّ مشروع السيل الشمالي /2/ يمكن استخدامه لضخ الفودكا، كما صرحت أنَّ هذا المشروع سيتوقف في حال الهجوم الروسي على أوكرانيا وهنا تظهر الرغبة الأمريكية في إيقاف هذا المشروع من خلال دفع المنطقة إلى حافة الصراع لابقائها في مجال الهيمنة الأمريكية.
والحال نفسه ينطبق على كازاخستان لكن المقاربة هنا مختلفة في ظل وجود حدود مشتركة للدولة مع كل من روسيا في الشمال والصين في الجنوب الشرقي وهو ما سيؤدي في ظل تدخل الدول المجاورة إلى دفع المنطقة إلى حرب كبرى الرابح الوحيد فيها هو الولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً إذا قام منافسيها في الاقليم بالتوجه نحو الحرب في ظل تداخل المصالح والمشاريع في كازاخستان لاسيما مشروع الحزام والطريق الصيني الذي يؤسس لمرحلة جديدة في العلاقات الاقتصادية الدولية بعيداً عن الهيمنة الأمريكية والتبعية لها وهو ما يثير حفيظتها فتسعى إلى إثارة النزعات الانفصالية في المنطقة وبشكل خاص (التيبت والأيغور) لتفتيت الصين ودفعها بعيداً عن آسيا الوسطى، فكانت أحداث كازاخستان مشابهة لمثيلاتها في أوروبا الشرقية والدول العربية والبلقان ، أحداثٌ من صنيعة معاهد صربيا التي تهدف إلى إقامة مسرحية تتمثل بالحراك السلمي ومن خلفه أذرع خفية تابعة للولايات المتحدة الأمريكية تحرك الأحداث في الوجهة التي يريدها ساكن البيت الأبيض، وبالمقابل عملت موسكو على انتهاج سياسة الاحتواء تجاه الخطط الأمريكية في المنطقة واستطاعت اجتياز العقبات التي عملت الولايات المتحدة الأمريكية على وضعها في طريقها لجرها إلى حروب كبرى من خلال العمل تحت مظلة منظمة الأمن الجماعي التي تدخلت لإعادة السلام إلى كازاخستان.
29/1/2022
مطانيوس الصفدي