الحرب على سورية لم تنته بعد!!
افتتاحية صحيفة البعث
بسام هاشم
من الخطأ أن يتناول البعض السردية السورية انطلاقاً من أن الحرب قد انتهت، أو كأنها لم تكن قائمة أصلاً، أو أنها سيرورة مقطوعة ومنفصلة في الزمن، أو أنها بمعزل عن حروب وسياقات عالمية أخرى، أو أنها غير ذات صلة بسوابق وإرهاصات، أو تداعيات بعيدة أو قريبة. كما من الخطأ، أيضاً، أن نفترض أن تكلفة الحرب – أي حرب – تعني جيلاً واحداً، أو الأجيال الراهنة مجتمعة فقط، أو أن فاتورتها لن تمتد إلى الأجيال المستقبلية، تماماً كما كان شأن كل الحروب، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. ولربما، لهذا السبب، كانت الحروب، تاريخياً، أكبر محرض على صياغة الهويات الوطنية، وأهم المنعطفات والمفاصل الأساسية لإعادة بناء الأمم على أسس جديدة، وخاصة باستنادها إلى تجربة الدفاع عن المصير الواحد ومواجهة التهديدات المشتركة.
ولا شك أن ما تعرضت له سورية خلال السنوات العشر الماضية كان نوعاً فريداً، وغير مسبوق، من الحرب الهجينة التي تستهدف ” تسييل ” المجتمع وتهديم الدولة كاملة. ولا تفسر محاولات الإبادة، المتعمدة والشاملة، لكل مظاهر الحياة الأهلية والمؤسساتية – من مدارس ومستشفيات ومعامل ومنشآت وطرق وجسور ومحطات كهرباء ومعالجة معالجة، وآبار نفط وغاز، ومراكز أبحاث، وأخيراً إحراق الغابات والمحاصيل وسرقتها إلى الخارج – إلا النية المبيتة في خطة اختطاف وسرقة كل سورية، ودفع السوريين إلى المغادرة، أو “الهجرة الطوعية”، لحساب موجات “استيطانية”، و”إحلالية”، من الداخل والخارج، تتمثل مهمتها الرئيسية في استبدال حقائق التنوع والغنى والتجانس الحضاري التي ميزت مجتمعاتنا، على امتداد الحقب التاريخية المتوالية، بـ “ثقافة عدمية” تجعل سورية، ومعها الشرق القديم والحديث بأكمله، أرضاً بـ “شعوب أصلية” مبادة، مباحة، ومستباحة للاستعماريين الجدد، وشذاذ الآفاق، من كل صنف، الذين يحكمون اليوم السيطرة على عالمنا الراهن بدولاراتهم ونفطهم وعقوباتهم الاقتصادية.
ولكن الحقيقة الأكيدة التي غابت عن أذهان هؤلاء، أن هذه الأرض ليست خلاء ولا عقاراً، بل هي أرض مقدسة منذ الأزل، وقدد تطهرت بدماء عشرات آلاف الشهداء القديسين الذين حمّلونا الوطن أمانة نحافظ عليها ونصونها ونسلمها عزيزة كريمة للأجيال القادمة، وليس التفريط بها تحت أية اعتبارات أو “مطالب”، محقة كانت أو غير محقة، فالوطن ليس ملكاً لجيل أو لفئة، وليس من حق أحد التصرف به لمجرد أنه متاح له الوقوف أمام الكاميرات، وإعلاء صوته على مسمع ومرأى من المتربصين شراً بالوطنية السورية، ومن المتلطين والمندسين لإجهاض النصر الذي تحقق، والذي ندر أن تمكن شعب من تحقيقه.
في اللحظات الحاسمة والصعبة، من المهم أن ندرك قيمة أي نصر وثمنه وأهميته وعمقه في الوعي والذاكرة المجتمعية لكي تتوفر لدينا الشجاعة الكافية لإسكات كل المزاودين والحاقدين والمغامرين وقصيري النظر الذين يستعجلون موت سورية الوطن والدولة فقط ليرفعوا على أشلائها الممزقة هوسهم المرضي بأمجاد شخصية، أو يروون ميلهم النرجسي لاجتذاب الشهرة حتى ولو انطوى ذلك على الإفصاح عن نزعات انتحارية. فلا أحد يسعه الادعاء إن الحرب انتهت مع آخر رصاصة، مثلاً، في حلب أو غوطة دمشق أو دير الزور؛ كما لا يمكن القول، بالمقابل، إن عملية إعادة الإعمار، وفي ظروف “الحرب الأبدية” التي شنّت – ولا تزال – على سورية، يمكن أن تنتظر، إلى الأبد، إعلان اندحار واشنطن وحلفائها، أو أن تقبل التأجيل إلى ما لانهاية.. والأصح أن إعادة الإعمار أقلعت – وتقلع – بالإمكانات المتاحة، وأقوى دروس ما بعد الحرب أن تقلع بـ “جهوزية ذاتية” كاملة، من خلال تصحيح ما أمكن من اختلالات مالية واقتصادية، وفي المقدمة منها، مثلاً، إعادة هيكلة الدعم، والتخلص من المديونية؛ فالأقوى والأسلم اقتصادياً الدخول في عملية إعادة الإعمار وسورية “نظيفة” من مختلف أشكال الاختلال والفساد الذي يرافقها عادة، وإجراء عمليات “التصحيح” الاقتصادي الضرورية والمطلوبة، فكيف إذا كانت الأعباء ضخمة وهائلة، ومن الضروري تصفيتها، أو التخفيف منها، بالتزام الشعب نفسه، وإلا فترحيلها للأجيال القادمة، أي تأجيلها لا حلها، وتلك مشكلة قد لا تقل كارثية وخطراً من الحرب نفسها.
لقد بدأ العد العكسي منذ فترة ليست بالقصيرة، والأفق واعد، والنصر صبر ساعة، وحينما يقال إن “سورية لا تجوع” فلأنها سورية الحرة التي “لا تأكل بثدييها”، وليس من باب التنكر للمعاناة. ولكن الانتصار لن يتعزز، ولن يأخذ معناه كاملاً، إلا حينما نتمكن من تحويل الحرب إلى فرصة، أو نعيد تصورها كنوع من المخاض، أو الولادة الجديدة، نودع من خلالها الأعباء ونتخلص من الأحمال لنعانق الأمل والمستقبل.
لقد مرغ شعبنا أنف الولايات المتحدة الأمريكية في التراب، وحطم الجبروت الأطلسي، وهزم الوهابية المتأسلمة المتحالفة مع الصهيونية، وهو شعب لا يفرط، ولا يعرف اليأس ولا التعب، فما أنجزه ثمين ونادر وغير مسبوق، وهو قادر على استثمار هذا الإنجاز إلى أبعد نقطة ممكنة.