ثقافة وفن

“حتّى إشعال آخر”.. حين يتسيّد الرّمز ويشتعل جمر المناجاة

الجنوح للرمزية الشعرية والذهاب بها إلى أقصاها اتجاه أدبي ذو حدين لدى “رائد خليل”، فرغم جمالية الرموز وغزارة الصور التعبيرية التي تتضمنها والتي قد تحتمل وجوهاً متعددة للمعنى يذهب إليها المتلقي حسب رؤاه وإدراكه، إلا أنّ الرمزية في شعره تبحر، في بعض الأحيان، نحو العمق، ما قد يبني حاجزاً بين المتلقي والشعر لا يتجاوزه إلا الشاعر نفسه، ورغم أن اعتماده على رمزية المعنى والتكثيف الشعري معزز بأسلوب يطغى على الفنان الشاعر كونه محترفاً في فن “الكاريكاتور”، ومتأثراً، بالضرورة، بما يتطلبه هذا الفن، إلا أن لشعره خصوصية لا تجدها إلا لديه، تأخذك لعالم مشبع بالبوح موشّى بألوان الحياة، خصوصية لا بد أن تتجلّى، ولا بدّ أن تترك أثرها..

هذا ما كان في ديوان “رائد خليل” الجديد: “حتى إشعال آخر”، خمسون محطة بلا عنوان، فالحرية مطلقة في عالم الشاعر، بدأت بعناوين القصائد، ولم تنته بتفكيك المعاني وإسقاطاتها، ودلالات الصور، حتى البناء الموسيقي للقصائد، غلب عليه النصوص النثرية المتحررة، غالباً، من الأوزان والقوافي، فعمّت الموسيقا الداخلية المشبعة بالهمس والمناجاة.

خمسون محطة عمّدها الشاعر بالمناجاة، بالسّلام المشرع على الصرخة البكر، وابتسامات الأمهات، وذكريات الطفولة، مفاتيح حياة، بدأ بها مشرعاً أبواب قلبه على مساحات ملوّنة تكتنز مشاعره لتكون هي العنوان ولتتسيّد البداية والنهاية..

سلاماً على الصرخة البكر/ محفوفة بابتسامة أمي/ سلاماً على ثغر هذا المصير/ وقد سطر الحب ذكرى تألم منها القدر..

الطفولة هي ثيمة حاضرة لا تغيب في المحطات، هو توق لها وانعتاق مما بعدها، بل هو النكوص والتشبث والاشتياق الذي لا ينتهي، ولعله الهروب من زمن يرمي بأحماله الراهنة ليجد في الطفولة الأمان والملجأ..

في المحطة الثامنة.. كم وددت لو/ عدت طفلاً/ كي أحبو مطمئناً/ فتلمحني هدهدة/ على جوانبها فتات بكاء..

وفي المحطة الثانية والعشرين.. في الطفولة حصراً/ ألمح وهج الشمس/ على جبين الاعتبار/ كي أرد جميل الأماني..

الشاعر مسكون بأناه، تلك الأنا المتمردة التي لا تقبل بالواقع على حاله، تعانق الخيال والمدارات وحتى الوهم، وتمد أشرعتها نحو بحر بلا شواطئ، هو الهروب من الصندوق ومن كل القيود نحو عالم أرحب يرسمه بخياله وقلمه..

الليل لا يعرفني/ وأنا المكنى بتفاصيل النجوم/ وتخوم المدارات/ أمهد للأبواب صريرها/ كي أقنع المفاتيح/ بفتوحات من ثقب الزمان..

وفي محطة أخرى.. أنا وحدي/ أرسم على مساحة حرية ممزقة/ سراب البعد الأدنى/ ولازمة التخيل المعمى/ وحشرجة البكاء الجبري/  أنا وحدي

ويبقى البحث عن الحقيقة هاجساً مشتعلاً لا ينطفئ كيف لا وهي القطاف المرتجى رغم كل المشقات، هي المحاولات التي لا تنتهي نحو صياغة حياة من حروف لا تموت..

قطافُ الآه علمني/ أن ألوّن عناقيد التدلي/ على كتف الريح/ المستعر بالضجيج/ وعلّمني أن أمدّ

خرائط جغرافيتي/ ريثما تنهض الحقيقة/ من حدود الضباب..

وفي المحطة السابعة.. كأي مكلوم/ يعاتب المرايا/ أمد للشراع سارية الوهم/ وأنا أراوح في مكان مختصر..

خمسون محطة أشعل خلالها الشاعر جمر مناجاته لذاته وللحياة وللأم التي تبقى رغم الرحيل..

رحلت أمي “صبرية خليل” / فلا تستغربوا جمري/ في أسئلة المناجاة..

تقع المجموعة الصادرة عن دار العراب للنشر والتوزيع في 100 صفحة من القطع المتوسط.

 

هديل فيزو