دوليسياسة

الخطر الصهيوني: تحول في الشكل والأدوات

د. إبراهيم علوش
لم يكف الصهـ.ا ينة في إبان العقد الأخير عن أن يكونوا خطراً عسكرياً ماثلاً في محيطهم المباشر، كما رأينا في مئات عمليات القصف الجوي والصاروخي المستمرة في سورية منذ عام 2013، وفي غزة في الأعوام 2011، 2012، 2014، و2021، وفي الاقتحامات وعمليات القتل اليومية والعشوائية وغير العشوائية للفلسطينيين في الضفة الغربية، مع الاستمرار طبعاً في شن العمليات الخارجية خارج المحيط المباشر لـ”دولة” الاحتلال، ومنها مثلاً لا حصراً استهداف مفاعل نطنز الإيراني عامي 2020 و2021، والغارات على السودان في الأعوام 2009، 2012، و2014، التي اعترف بها نتنياهو ضمنياً في خطاب متلفز في تشرين أول/ أوكتوبر 2020 عشية الاتفاق التطبيعي مع النظام في السودان.
أضف إلى ذلك التهديدات المتواصلة بقصف لبنان (وإعادته إلى العصر الحجري إلخ…) أو إيران، والتقارير الإعلامية المتواترة عن دور “إسرائيلي” ميداني وجوي واستشاري فاعل في الحرب على اليمن، وتأسيس موطئ قدم استخباري صهـ.يو ني في جزيرة سوقطرة اليمنية في قاعدة مشتركة مع الإمارات، وفي جزيرة ميون.
وهنالك أيضاً عشرات عمليات التصفية الجسدية التي نفذها الموساد خلال السنوات الأخيرة مثل اغتيال عالم الصواريخ السوري عزيز إسبر في مصياف في 5/8/2018، واغتيال العالم الإيراني محسن فخري زاده في 27/11/2020.
وإذا تابعنا دور كيان العدو في إطباق الحصار النفطي على سورية (انظر مثلاً تقرير صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية في 11/3/2021 عن الاستهداف الصهـ.يو ني لما لا يقل عن 12 ناقلة نفط متوجهة إلى سورية بين نهاية عام 2019 وتاريخ نشر التقرير)، فإن الصورة التي تتكون تلقائياً عن الكيان، فضلاً عن كونه احتلالاً، هي أنه ما برح يمثل خطراً عسكرياً واستخبارياً مباشراً ويومياً كما كان منذ نشأ، وبهذا المعنى، فإن هذا الشكل التقليدي، العسكري المباشر، من الخطر الصهـ.يو ني لم يتوقف ولم يتغير. فإما أنه يشن العمليات العسكرية فعلياً أو أنه يهدد بها ويهيئ لها، ولهذا فإن من يزعمون أن الكيان لا يعادينا ولا يحاربنا يتعامون عن الوقائع النارية من حولهم، وعن الخطر المحيق بنا إن غفلنا عنه هنيهة.
تحول طبيعة الخطر الصهـ.يو ني عسكرياً
بالرغم من ذلك، ثمة تحولات كبرى في طبيعة الخطر الصهـ.يو ني عسكرياً أسهمت بتبلورها عوامل ضعف شتى في الجندي والقائد والمجتمع الصهـ.يو ني ذاته، أفضت، أولاً، إلى تزعزع قدرة كيان العدو على شن الاجتياحات البرية الواسعة، وأفضت، ثانياً، إلى بروز مؤشرات على وهن قدرته على ممارسة الاحتلال الدائم لو افترضنا جدلاً أن مثل تلك الاجتياحات تمت بنجاح. وقد سجلت حرب لبنان في صيف عام 2006 معلماً تاريخياً على هذا الصعيد، وكذلك وقوف جيش العدو حائراً ومتردداً أمام غزة مراراً وتكراراً.
في الحالتين، ظهر أن عصر الاختراقات البرية الصهـ.يو نية الواسعة والسريعة قد انتهى، وأن عنصر الحسم والمفاجأة البرية لم يعد طوع يديه، وعليه نرى أن الاستراتيجية العسكرية للعدو باتت أكثر اعتماداً على: أ – قوته الجوية والصاروخية الدقيقة، ب – العمليات الخاصة والاستخبارية، أي على الاشتباك “من بعيد” والاستهداف الموضعي الذي بات مهيمناً على عملياته، بما يغلب عليه طابع زعزعة الاستقرار والاستنزاف.
لم يقتصر مثل هذا التحول على الكيان الصهـ.يو ني فحسب، إذ أنه ترافق مع تحول من النوع ذاته في العقيدة العسكرية الأمريكية، بعد تجربتي العراق وأفغانستان بالذات، باتجاه التقليص التدريجي لعدد وحدات المشاة التقليدية من جهة، طفا على جانبه حوار، عبرت عنه عدة أبحاثٌ أمريكيةٌ، يتعلق بضرورة تقليص عدد أفراد وحدة القتال الميدانية الواحدة على الأرض، بما يجعلها أكثر مرونةً وحركيةً، وأشبه بوحدات حرب العصابات، فيما يجري التوسع في الآن عينه في عدد الوحدات المعتمدة على التكنولوجيا المتطورة ومجموعات القوات الخاصة والمتخصصة من جهة أخرى.
وهذا يعني في المحصلة الاعتماد بدرجة أقل على الاحتلال المباشر والمطول، والتوجه بدرجة أكبر نحو التدخل العسكري بطرقٍ أخرى، غير تقليدية، موضعية جغرافياً وزمنياً، مع الحفاظ على قدرات دفاعية تقليدية تقل أهميتها بمقدار ما يكون الخصم العسكري غير تقليدي، أي “لاعب من غير الدول” non-state player، حركة مقـ.ا و مة مثلاً.
من البديهي أن ارتفاع كلفة الاحتلالات طويلة المدى بالنسبة لجدواها، وانخفاض دافعية المجتمعين الصهـ.يو ني والأمريكي لبذل أثمان بشرية عالية ومتواصلة للاجتياحات البرية الواسعة، أسهم في حدوث مثل تلك التطورات.
وينبني على ذلك بالضرورة أن الاجتياحات والاحتلالات التي لا تواجِه مقـ.ا و مة عالية الوتيرة ترفع من تكلفتها البشرية والمادية والإعلامية بما لا يمكن تحمله سوف تظل جذابةً ومغرية للمحتلين المحتملين، فلا عزاء للضعفاء والمتقاعسين في زماننا، ولا أمان لهم من الاجتياح والاحتلال حتى في ظل تحول طبيعة الحروب العسكرية.
ولهذا، فإن من يقولون إن كيان العدو “لم يعد يحاربنا”، والمقصود أنه لم يعد يجتاح ويحتل ويهضم المزيد من الأراضي العربية، يتناسون أن ذلك لم يأتِ تعففاً أو أدباً ورِفعة، إنما جاء بسبب وجود مقـ.ا و مة وقدرات ردعية من جهة، وتآكل قدرته العسكرية والديموغرافية على التمدد براً بالشكل التقليدي من جهةٍ أخرى، ولولا ذلك لرأينا الأراضي جنوبي نهر الليطاني في لبنان مثلاً مليئةً بالمستعمرات، ولرأينا كيان العدو يمد مستعمراته إلى شرقي الأردن، الذي كانت أقسامٌ منه جزءاً من الخريطة التي قدمتها المنظمة الصهـ.يو نية العالمية للحلفاء عام 1919 (أنظر الصورة المرافقة)، ويذكر أن مستعمرة صهـ.يو نية تأسست في جرش عام 1891 دمرها الأهالي عام 1896 م.
الخطر الصهـ.يو ني في مرحلة حروب الجيل الرابع وما بعدها
ينسجم التحول في العقيدة العسكرية الصهـ.يو نية، والغربية عموماً، بعيداً عن الاحتلال الدائم وعبئه، مع التحول التاريخي في أنماط الحروب عموماً وصولاً إلى حروب الجيل الرابع التي نعيشها اليوم، وهي حروبٌ تتميز بتعدد الجبهات وسيولتها وهلاميتها، كما تتميز بتعدد أطرافها، وبأن أطرافاً أساسية فيها ليست حتى من الدول، وبأن أدواتها ليست عسكرية بالأساس، إذ يتداخل فيها الحيز العسكري مع المدني، والاستخباري مع الجماهيري، والسياسي مع الإعلامي، ويتداخل فيها الحيز الحقيقي مع الافتراضي، والحيز المحلي مع الإقليمي والدولي. وهذا يعني أن تعريف “الميدان” لم يعد حيزاً جغرافياً بالضرورة أو واضح المعالم.
يتمثل القانون الفيزيائي الأساسي الذي نقل الحروب من الجيل الأول إلى الرابع، بحسب رأي كاتب هذه السطور، في مدى السلاح المستخدم في القتال، فكلما ازداد مداه المكاني اتسعت مساحة الميدان، فالسيف يتطلب اشتباكاً يدوياً قريباً، ومدفع القرن التاسع عشر أبعد مدىً، والصاروخ العابر للقارات يغطي قارات، فيما يمكن أن يغطي القمر الصناعي المسلح بالصواريخ دائرة الكرة الأرضية برمتها.
وبالتالي، يستطيع القمر الصناعي، غير المسلح بالصواريخ، أن يقصف العقول والقلوب على مدار الساعة عبر الفضائيات والإنترنت بزاوية 360 درجة. وتعبير “مدار الساعة” لا يُضاف إنشائياً هنا، فالميدان، أو الدائرة التي ينشب فيها القتال، هي مساحة حقل الصراع الذي يحدده شعاع الدائرة أو الميدان، أي مدى السلاح بالأمتار أو آلاف الكيلومترات، بحسب قانون مساحة الدائرة (تربيع الشعاع ضرب القيمة الثابتة π ). والزمن هو البعد الذي يضيف بُعد الحركة والتغير والسيولة إلى الميادين المتداخلة التي قد تتمدد مساحة أحدها على حساب الميادين الأخرى ليعود للتقلص بعد أن تستوعبه دوائر صراع أخرى أوسع مساحةً وأكثر ديناميكيةً. والأصح ربما هو أن نتحدث عن أحجام أجسام كروية متداخلة، لا عن مساحة دوائر فحسب، ولكن حتى حجم الكرة يتحكم فيه بدرجة أكبر طول الشعاع (تكعيبه تحديداً)، أي مدى السلاح المستخدم أو القدرة على “الوصول”، جغرافياً وغير جغرافياً.
بجميع الأحوال، ولمن لا يكترث كثيراً للتحليل الرياضي لميادين الصراع، فإن الخطر الصهـ.يو ني خارج الحقل العسكري المباشر، بما يضاهيه وأكثر، بات ينصب بدرجة أكبر من ذي قبل على استراتيجيتين اثنتين: أ – تفكيك الجغرافيا السياسية العربية، ب – تفكيك الهوية والوعي والمجتمع العربي. وهما استراتيجيتان متكاملتان، تفضي إحداهما إلى الأخرى، ويمكن أن نضعهما معاً تحت عنوان واحد هو “تذرير المحيط” أو تشظيته بما يقود إلى تقزيم دوائره أو أحجامه وتكاثرها بحيث يسهل اختراق المحيط والتلاعب به والسيطرة عليه، وصولاً إلى تحوله إلى احتياطي بشري واقتصادي ورأسمالي واستراتيجي لـ”إسرائيل العظمى” لا من الفرات إلى النيل فحسب، بل من المحيط إلى الخليج، ومن دون احتلال عسكري مباشر.
على صعيد تفكيك الجغرافيا السياسية العربية، أي تفكيك دول التجزئة القُطرية ذاتها، فإن علينا فحسب أن نلحظ الدور الصهـ.يو ني في العمل على تفكيك العراق والسودان وسورية وليبيا والمغرب العربي عموماً. الورقة الكردية كانت المفضلة تاريخياً في شمالي كل من العراق وسورية، وورقة “التمييز العربي ضد الزنوج” هي المفضلة في السودان، لا في جنوبيه فحسب، بل في دارفور المسلمة بالكامل أيضاً (ونلحظ هنا دور الملياردير ستيفن سبيلبيرغ، أحد أعمدة هوليود واللوبي الصهـ.يو ني عموماً، في تفعيل “قضية دارفور” أمريكياً). مشروع تفكيك وحدة ليبيا كان راعيه الرسمي الصهـ.يو ني برنار هنري ليفي كما هو معروف، وفي المغرب العربي عموماً ثمة استثمار “إسرائيلي” مكثف في الورقة الانفصالية الأمازيغية (جمعية الصداقة الأمازيغية-اليهـ.و دية أنموذجاً).
ونلاحظ إجمالاً مدى الاستثمار الغربي في ورقة “الأقليات” العرقية والطائفية والجهوية في كل الأقطار العربية (وفي غيرها)، وما من شكٍ في أن الاستثمار في الورقة الطائفية هو ديدن كيان العدو، والغرب عموماً، فقد لعب ورقة “المظلومية” في سعيه لتفكيك العراق، وها هو يلعبها مجدداً على الطرف النقيض في سورية ولبنان، وفي مواجهة محور المقـ.ا و مة (ابحث مثلاً عن دور الوحدة الاستخبارية “الإسرائيلية” رقم 8200 في تسعير الخلاف الطائفي في الفضاء الافتراضي).
نتحدث هنا عن مشاريع تذويب هوية (من بوابة “الإبراهيمية” مثلاً)، وعن فتن وحروب أهلية وتفكيك مجتمعي لا يقل خطورةً ودموية وأثراً عن الاجتياح المباشر، مع العلم أن تلك الفتن لا تجري من دون دعم مباشر. انظر، مثلاً، تقارير الإعلام الأمريكي عن دعم دولة العدو المالي والعسكري والاستخباري لميليشيات في الجنوب السوري (الـ”وول ستريت جورنال” في 18/6/2017، الـ”فورن بولسي” في 6/9/2018، وغيرها كثير)، فيما يوجه الإعلام المعادي والمأجور سهامه ضد “الميليشيات المدعومة إيرانياً”!
ثمة كمية هائلة من الوثائق والأدلة تشير إلى دور الحركة الصهـ.يو نية العالمية في طرح “قضايا الأقليات” والاستثمار فيها إعلامياً وسياسياً واستخبارياً في المحافل الغربية خصوصاً، والعالمية عموماً، في سياق مشروع التفكيك، ومن ذلك مثلاً لا حصراً ورقة “أليوت إبرامز: خطة الولايات المتحدة لإشعال سورية” طائفياً في بداية الحرب، وسلسلة قرارات الكونغرس الأمريكي لـ”حماية الأقباط في مصر من الاضطهاد الديني”… أضف إلى ذلك دور الجمعيات غير الحكومية الممولة أجنبياً في نشر الوعي الليبرالي المعولم (تذرير المجتمع فردياً)، كما هو دأب جمعيات جورج سورس مثلاً، والهجوم الشرس والمتواصل على الهوية العربية الجامعة (انظر مثلاً قرار الكيان الصهـ.يو ني الاعتراف بـ”الهوية الآرامية” رسمياً عام 2014 في عز الحرب على سورية)، والتحالف بين الليبراليين والإسلاميين لمحاربة كل رمز وتراث وفكرة ذات بعد قومي (تحطيم تمثال عبد الناصر في بنغازي في 12 فبراير 2012 تحت رعاية الناتو طبعاً)، لنصل إلى صورة أوضح عن طبيعة الصراع والخطر الصهـ.يو ني اليوم.
على الرغم من ذلك، فإن تداخل ميادين الصراع وأدواته ودوائره لم تدفع بعضنا بعد، للأسف، للربط بين دور كيان العدو في فلسطين وبين الحركة الصهـ.يو نية العالمية خارج فلسطين كجزء لا يتجزأ من معسكر الأعداء الرئيسيين، إذ أن صراعنا مع الصهـ.يو نية، أكثر من أي وقت مضى منذ القرن التاسع عشر، لا يقتصر على الأراضي العربية المحتلة في فلسطين التاريخية وغيرها فحسب، وتحت هذا العنوان بالذات، لا بد من التنبه للجهود المبذولة لنشر ثقافة “المحـ.ر قة” عربياً، ولكن تلك قصة أخرى لمعالجة أخرى.
الميادين نت 14/2/2022